وإني لمن قومٍ كأن نفوسنا ... بها أنفٌ أن تسكن اللحم والعظما
كان القياس أن يقول: كأن نفوسهم، غير أنه يختار رد الكناية إلى الإخبار عن النفس؛ لما فيها من مبالغة المدح.
يقول: إنا نختار الموت ونلتذه؛ فكأن نفوسنا تأنف أن تسكن العظم واللحم، فتحب مفارقتهما وتحرص على التخلص منهما.
كذا أنا يا دنيا إذا شئت فاذهبي ... ويا نفس زيدي في كرائهها قدما
يقول: كذا أنا. أي: هكذا مذهبي. وقيل: أراد أنا مثل قومي، لا أرغب في الدنيا، فمتى شئت أيها الدنيا فاذهبي، ويا نفسي ازدادي في كراهة الدنيا وشدائدها، فإني لا أبالي بالدنيا وحياتها، وخيالاتها.
فلا عبرت بي ساعةٌ لا تغرني ... ولا صحبتني مهجةٌ تقبل الظلما
روى: غبرت وعبرت. أي مضت. يعني إنما أريد الحياة للعز، فكل ساعة لا أكسب فيها عزاً أماتني الله قبلها، ولا صاحبت نفسي محتملةً للظلم، وفرق الله بيني وبينها.
وجعل قومٌ يستعظمون ما قال في آخر هذه القصيدة فقال
يستكثرون أبياتاً نأمت بها ... لا تحسدن على أن ينئم الأسدا
نأم ينأم: أي صوت. والنئيم: الصوت والأبيات: تصغير الأبيات. وأراد بتصغيرها أنها صغيرة إلى جنب فعله. ونصب الأسد بتحسدن أي لا تحسدون الأسد. وأن مع الفعل: بمعنى المصدر. أي على نئيمه.
يقول: إنهم استعظموا هذه الأبيات، وفعالي أعظم منها، فأنا الأسد، والأسد لا يحسد على زئيره؛ لأن فعله أعظم من صوته، فلا ينبغي أن تحسدوني على ذلك.
لو أن ثم قلوباً يعقلون بها ... أنساهم الذعر مما تحتها الحسدا
الهاء في تحتها: للأبيات، وفي بها: للقلوب.
يعني: لو كان لهم قلوب فيها عقول لأنساهم ما تضمنته أبياتي من الذعر والحسد الذي هم عليه.
3 - (هدية خاصة!) شرح أبي اليمن الكندي (لم ينشر بعد):
وورد على أبي الطيب كتاب جدته من الكوفة تَسْتَجْفِيهِ فيه، وتشكو إليه شوقها وطول غيبته عنها، فتوجَّه نحو العراق ولم يمكنه دخول الكوفة على حاله تلك!! فانحدر إلى بغداد، وقد كانت جدته يَئِسَتْ منه، فكتب إليها كتاباً يَسْأَلُها المسير إليه، فَقَبَّلَتْ كتابه وَحُمَّتْ لِوقتها سروراً به، وغلب الفرح على قلبها فقتلها، فقال فيها يرثيها
1 - أَلا لا أُرِي اَلأحْدَاثَ حَمْداً ولا ذَمّاً ** فما بَطْشُهَا جَهْلاً ولا كَفُّها حِلْمَا
لا تُحْمَدُ الأحداث ولاتُذَمْ، لأنها لاتوصف بحلم ولا جهل، وإنّما الله تعالى هو المُصَرِّف لها.
2 - إلَى مِثْلِ ماكان الفَتَى مَرْجِعُ الفَتَى ** يَعُودُ كما أَبْدَى وَيُكْرِى كَمَا أَرْمَى
«بَدَا» و «أبدى» لغتان، و «أَكْرَى»: إذا نقص، و «أرْمَى» إذا زاد.
بدأ من عَدَمٍ ثم عاد إلى مثله.
3 - لَكِ اللّهُ مِنْ مَفْجُوعَةٍ بِحَبِيبِهَا ** قَتِيلَةِ شَوْقٍ غَيْرِ مُلْحِقِهَا وَصْمَا
لم يُلْحِقْها الشَّوق إلى معشوقها وصماً؛ لأَنّه وَلَدُهَا.
4 - أَحِنُّ إلى الكَأْسِ التّي شَرِبَتْ بِهَا ** وَأَهْوَى لِمَثْوَاهَا التُّرَابَ وماضَمَّا
5 - بَكيْتُ عَلَيْهَا خِيفَةً في حَيَاتِهَا ** وَذَاقَ كِلاَنَا ثُكْلَ صَاحِبِهِ قِدْمَا
تغرَّبَ عنها فبكى لِفِراقها وَلِلْخَوفِ من موتها قبل لقائها، وَلَقِيت هي من فراقه ما يلقى الثَّاكل.
6 - وَلَوْ قَتَلَ الهَجْرُ المُحِبِّينَ كُلَّهُمْ ** مَضى بَلَدٌ باقٍ أجَدَّتْ لَهُ صَرْمَا
يقول: لو كان الهجر يقتل كُلَّ مُحب لأهلك بلدها؛ لأن بلدها يحبها لافتخاره بها، ولكنَّ الهَجْرَ لا يَسْتَأْصل فيترك بعضاً ويقتل بعضا.
و «أَجَدَّتْ» أي: جَدَّدَتْ، وقد نفى في هذا البيت ما أثبته في قوله:
لا تَحْسبُوا ربعكم ولا طَلَلهْ
7 - مَنَافِعُهَا ما ضَرَّ في نَفْعِ غَيْرِهَا ** تَغذَّى وَتَرْوَى أَنْ تَجُوع وأن تَظْمَا
يقول: إنها ترى منفعة نفسها أن تَنْفَعَ غيرها، وإن عاد ذلك بالضّرَر عليها، فهي تُطْعِمُ وتَجُوعُ، وَتُرْوِي وتَظْمَأ، وَفَسَّر النصِّفُ الآخر النِّصفَ الأول
8 - عَرَفْتُ الليالي قَبْلَ ما صَنَعَتْ بِنَا ** فَلَمَّا دَهَتْنَا لَمْ تَزدْنِي بِهَا عِلْمَا
9 - أَتَاهَا كِتَابي بَعْدَ يأْسٍ وَتَرْحَةٍ ** فَمَاتَتْ سُرُوراً بي فَمُتُّ بِها هَمَّا
10 - حَرَامٌ على قَلْبي السُّرُورُ فَإنَّني ** أَعُدُّ الّذي مَاتَتْ بِهِ [بعدها] سَمَّا
ما أَحّفسنَ تحريمه السرور على نفسه إذا كان قاتلا لأمه، كما تُحَرَّم السموم وَتُجْتَنَب
¥