[لماذا قل حفاظ الشعر في زماننا؟]
ـ[أبو سفيان الأزدي]ــــــــ[12 - 05 - 10, 02:11 ص]ـ
[لماذا قل حفاظ الشعر في زماننا؟]
يعود بي هذا السؤال إلى خبر قرأته قديما عن الإمام الناقد أبي العباس الجزنَّائي و كان كاتب السلطان أبي الحسن المريني، و المقدم في البصر باللسان و الشعر في زمانه، وخلاصة خبره أنه سمع رجلا ينشد قصيدة مطلعها:
لم أدر حين وقفت بالأطلال ما الفرق بين قديمها و البالي
فقال على البديهة: هذا شعر فقيه! فقيل له: و من أين لك ذلك؟ قال: من قوله (ما الفرق) إذ هي من عبارات الفقهاء و ليست من أساليب كلام العرب.
و الشاهد من هذا الخبر أن ما يحفظه الإنسان و يديم النظر فيه ينطبع في عقله الباطن فيطبع من ثم أسلوبه في الشعر والنثر. وقد كان الجزنائي نفسه يحفظ من شعر المحدثين عشرين ألف بيت فوق مايحفظه من شعر الأقدمين.
وهذا كله يؤكد أثر الحفظ في الأداء، و ما أصدق كلمة ابن خلدون حين قال: وعلى قدر جودة المحفوظ و طبقته و كثرته من قلته تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ، فبارتقاء المحفوظ في طبقته من الكلم ترتقي الملكة الحاصلة لأن الطبع إنما ينسج على منوالها … و لقد كانت سنةً متبعة في أدبائنا الأولين أن يكون حفظ الشعر ـ بعد القرآن و الحديث ـ الركن الأول في بناء الأديب، و ماكانوا يعدون الأديب أديبا و لا الشاعر شاعرا إلا إذا كثر محفوظه من شعر الفحول المتقدمين. بل كانوا يزدرون من لا يحفظه علمه في صدره و يتكئ علىكتابه، و من ذلك قول أبي سعيد العقيلي في أبي بكر الصولي الكاتب:
إنما الصولي شيخ أعلم الناس خزانهْ
إن سألناه بعلم طلبا منه إبانهْ
قال يا غلمان هاتوا رزمة العلم الفلانه!
وكان هذا الحفظ إلى عهد قريب باقيا في أدباء الأمة و شعرائها، حتى ذكروا عن الشيخ محمود بن التلاميد الشنقيطي (ت 1322هـ) أن الدواوين كانت تصحح و تضبط على حفظه رحمه الله! وصنف أحمد بن الأمين الشنقيطي (ت 1331هـ) كتابه الوسيط في تراجم أدباء شنقيط من حفظه و فيه آلاف الأبيات. وكان العجيري نديم الملك عبد العزيز رحمه الله يحفظ جميع الأغاني لأبي الفرج، ولعل بعضنا رأى أو سمع الشيخ الحضراني رحمه الله وهو يهدر بمئات الأبيات في مجلس واحد. فانظر كيف كان القوم.
و دارت الأيام دورتها و جاء زمن صار الأدب فيه ادعاءً، و امتطى صهوته كل عاجز كسول … وصار الأمر كما قال القائل:
لقد هزلت حتى بدا من هزالها كلاها و حتى سامها كل مفلس!
وبعد أن كان المرء لا يستحق لقب (أديب) إلا إذا أخذ من كل علم بطرف و حفظ آلاف الأبيات و نقر بعينيه في بطون مجاميع الأدب صار لقب الأديب اليوم أهون الألقاب حتى لقد تسمى به من لا يحسن قراءة بيت على وجهه.
و أسباب هذا العزوف عن الحفظ كثيرة من أهمها:
1ـ حملة التزهيد في الحفظ و التركيز على الفهم و مناهج البحث هذه الحملة التي حملت لوءاها التربية الحديثة وقالت حقا أريد به باطل! فباسم محاربة الجمود و باسم تعويد العقل على البحث و النظر وُئِد الحفظ و الحفاظ وصار لقب (حافظ) مثلبة بعد أن كان منقبة، و صار أهون ما ينبز به من حفظ متنا أو ديوانا أن يقال: زاد نسخة في البلد!
2ـ ظهور قصيدة النثر وشيوعها، فهذا الشعر المنثور ليس مما يعلق بالحافظة و لا هو مما يتشجع المرء على حفظه، ثم هو يكتبه من يكتبه و لو لم يكن عنده ذرة من علم بشعر العربية، فأدى شيوعه إلى انصراف الناس عن الحفظ.
3ـ قلة القدوات من حفاظ الأدب و الشعر، فأنت تحضر الكثير من المجالس و العديد من المنتديات الأدبية وقلما ترى فيها أديبا راوية يروي المطولات، بل إنك تستمع إلى الأكاديمي المتخصص يهدر بالقول ساعة و نحوها ثم لا يحسن أن يروي أبياتا قليلة من حفظه و يضطر إلى أن يراجع أوراقه، و تستمع إلى الشعراء فتجد أكثرهم لا يحفظ شعره و إنما يرويه من أوراقه، و حين يشاهد طلابُ العربية أساتذتَها و رموزها على هذه الحال يزهدون في الحفظ و ينصرفون عنه.
4ـ كثرة الشواغل و الملهيات التي أخذت بعقول الناس فلم تبق فيها متسعا لشعر يحفظ أو خبر يروى.
5ـ عدم وجود الحوافز المادية و المعنوية التي تشجع على حفظ الشعر و روايته، سواء داخل الأسرة أو في المجتمع أو في الجامعات و الأندية الأدبية، فهل سمعت قط عن مسابقة في حفظ ديوان أو قصائد معينة؟ و هل بلغك أن أبا حث ابنه على حفظ شيء من الشعر و جعل له جائزة على ذلك؟ و من هذا الباب أن الذي يجد و يجتهد و يحفظ القصائد الطوال لا يجد من يقدره إلا قليلا.
6ـ قلة حلق العلم التي تدرس علوم الأدب، فقد كانت المساجد في الماضي تحفل بحلق الأدب و فيها تدرس الدواوين و تحفظ و يعتنى بأمات كتب الأدب، أما اليوم فليس إلا الجامعات وهي كما تعلم لا تجعل لحفظ الشعر قدرا كبيرا في مقرراتها.
الدكتور عادل باناعمة
منقول
¥