أما الهدف التجاري فتمثل في إنعاش الاقتصاد الراكد بالمنطقة من خلال تحقيق نهضة تجارية واقتصادية لمدن الحجاز وكافة المدن الواقعة على امتداد الخط، وإحداث عملية رواج للمنتجات التجارية والزراعية من خلال نقلها نقلاً سريعا بالقطار إلى المناطق الأخرى، بل وكان من المخطط له مد الخط الحديدي تجاه أحد موانئ البحر الأحمر؛ ما يؤدي إلى زيادة الأهمية الاقتصادية والتجارية للخط زيادة واضحة. وبهذه الكيفية كانت طرق التجارة ستنتقل من قناة السويس إلى خط حديد الحجاز.
ومع إنجاز هذا المشروع العملاق بتمويل وكوادر عثمانية، كان سيثبت للدول التي تطمع إلى تفريق الدولة العثمانية وتريد التهامها وعلى رأسها الدول الأوربية، أن ثمة منجزات حضارية عظيمة يمكن للعثمانيين تحقيقها دون الحاجة إلى اللجوء إليها.
وكان للسلطان عبد الحميد الثاني أهدافٌ سياسية مهمة وراء إنشاء الخط الحجازي. إذ اعتقد بأن إنجاز هذا المشروع يعني تحقيق قدر من الاستقلالية للدولة العثمانية عن أوربا، عسكريا وسياسيا واقتصاديا وتقنيا. فالسلطان عبد الحميد الثاني والذي عُرف بتميزه عن سابقيه بحرصه على بقاء الخلافة العثمانية وحمايته لها، كان يبذل ما بوسعه بُغية توحيد صفوف المسلمين وتشكيل "اتحاد إسلامي" لمواجهة الأطماع الأوربية الاستعمارية وهجماتها الغاشمة على الدولة العثمانية، إضافة إلى دعمه لحركة "الجامعة الإسلامية" التي دعت إلى تكتيل جميع المسلمين داخل الدولة العثمانية والمناطق المختلفة من العالم خلف راية الخلافة العثمانية. ولعل خط حديد الحجاز يعتبر من أروع إنجازات السلطان عبد الحميد الثاني الرامية إلى الحفاظ على وحدة أراضي الدولة العثمانية.
الإنشاء والتنفيذ
يتحدث السلطان عبد الحميد الثاني عن الخط الحجازي في مذكراته بقوله: "أخيراً تحقق الخط الحجازي؛ ذلك الحلم الذي طالما راود مخيلتي. فذلك الخط الحديدي لم يكن فقط مصدرا اقتصاديا للدولة العثمانية، بل كان في الآن ذاته يمثل مصدراً بالغ الأهمية من الناحية العسكرية من شأنه تعزيز قدرتنا العسكرية على امتداده".
وقد أصدرت الإدارة السلطانية الخاصة قراراً بالبدء في إنشاء خط حديد الحجاز في الثاني من مايو عام 1900م، وفي الأول من سبتمبر عام 1900م، والذي يوافق العام الخامس والعشرين لجلوس السلطان عبد الحميد الثاني على عرش الدولة العثمانية، تم تدشين العمل في خط الحديد بين الشام ودرعا في احتفال رسمي مهيب.
ووصل خط الحجاز إلى عمّان عام 1903م، وإلى معان عام 1904م. وفي الأول من سبتمبر عام 1905م اكتملت المرحلة الأولى من خط الحجاز، وانطلقت أولى رحلات القطار بين الشام ومعان لنقل الركاب والبضائع.
وفي الأول من سبتمبر 1906م وصل الخط إلى مدائن صالح، ثم في 31 أغسطس 1908م وصل إلى المدينة المنورة. وخلال الثمانية أعوام التي جرى فيها تنفيذ خط الحجاز وصل طول الخط إلى 1464 كم. ومع إضافة الخطوط الفرعية الأخرى في المراحل اللاحقة بلغ طول الخط 1900 كم عام 1918م.
وكان الجيش العثماني هو المصدر الرئيسي للقوة العاملة في إنشاء خط حديد الحجاز. وساهم أيضاً في إنشاء هذا الخط عمال توافدوا من مناطق جغرافية مختلفة من العالم الإسلامي في مقدمتها سوريا والعراق. ولما كانت أعداد أولئك العمال الوافدين محدودة، فقد تحمل الجنود العثمانيين معظم أعباء ذلك المشروع. وكان الجنود يتقاضون أجوراً ضئيلة خلال فترة عملهم في المشروع، في مقابل السماح لهم بالانتهاء من الخدمة العسكرية قبل عام من موعدها المحدد.
تولى منصب كبير مهندسي الأعمال الفنية، مهندس ألماني يُدعى "مايسنر باشا"، وعمل تحت قيادته أربعة وثلاثون مهندسا، سبعة عشر منهم عثمانيون والآخرون كان معظمهم من الألمان، بالإضافة إلى مهندسين من إيطاليا وفرنسا والنمسا وبلجيكا واليونان.
وبعد وصول الخط الحديدي إلى محطة مدائن صالح أصبح الجزء المتبقي من الخط داخل حيز المنطقة الحرام. ولما كان من المحظور شرعاً دخول غير المسلمين إلى هذه المنطقة، فقد جرى إنشاء الخط الواقع بين مدائن صالح والمدينة المنورة كله بأيدي مهندسين وعمال مسلمين.
¥