وهذا القول الذي اختاره ابن عبدالبر - رحمه الله - هو القول الأول في هذه المسألة، وهو الذي ذكره الزركشي بقوله: (فذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري، والقاضي أبو بكر، وأبو حاتم ابن حبان وغيرهم إلى أنه لا فضل لبعضه على بعض؛ لأن الكل كلام الله، وكذلك أسماؤه تعالى لا تفاضل بينها، وروى معناه عن مالك، قال يحيى بن يحيى: تفضيل بعض القرآن على بعض خطأ، وكذلك كره مالك أن تعاد سورة أو تردد دون غيرها، واحتجوا بأن الأفضل يشعر بنقص المفضول، وكلام الله حقيقة واحدة لا نقص فيه.
قال ابن حبان في حديث أبيّ بن كعب - رضي الله عنه -: {ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن}: إن الله لايعطي لقارئ التوارة والإنجيل من الثواب مثل ما يعطي لقارئ أم القرآن، إذ الله بفضله فضّل هذه الأمة على غيرها من الأمم وأعطاها من الفضل على قراءة كلامه أكثر مِمَّا أعطى غيرها من الفضل على قراءة كلامه ... قال: وقوله: {أعظم سورة} أراد به في الأجر، لا أن بعض القرآن أفضل من بعض) (4) ا هـ.
وأمَّا القول الثاني في هذه المسألة فهو القول بالتفضيل، أي أن بعض القرآن أفضل من بعض، وهو القول المأثور عن السلف، وهو الذي عليه أئمة الفقهاء من الطوائف الأربعة وغيرهم، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -.
قال السيوطي في الإتقان: (وذهب آخرون إلى التفضيل لظواهر الأحاديث، منهم: إسحاق بن راهويه، وأبو بكر بن العربي، والغزالي.
وقال القرطبي: إنه الحق، ونقله عن جماعة من العلماء والمتكلمين (5).
وقال ابن الحصّار: العجب ممن يذكر الاختلاف في ذلك، مع النصوص الواردة بالتفضيل) (6) ا هـ.
وأقول أنا أيضاً: إنه لعجيب أن يرد مثل هذا الخلاف في هذه المسألة مع أن النصوص والأدلة الكثيرة تدل على التفضيل بل إن العقل يدل على ذلك مع دلالة الشرع.
وتقرير ذلك أن يقال: إن القرآن كلام الله، (وكلام الله لا نهاية له كما قال سبحانه: {قُل لَّوْ كَانَ ا؟ لْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ ا؟ لْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَـ! ــتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ÷ مَدَدًا} [الكهف: 109].
ومن كلماته تعالى: كتبه المنزلة، كالتوراة، والإنجيل، والقرآن، وكلماته التي يخلق بها الخلق، وكلماته التي كلّم بها آدم، والتي كلّم بها موسى، والتي كلّم بها محمداً صلى الله عليه وسلم وكلماته التي يكلم بها عباده في المحشر وفي الجَنَّة، وكلماته التي يخاطب بها أهل النَّار توبيخاً وتقريعاً، وغيرُ ذلك من كلامه تبارك وتعالى.
فكلامه تعالى متبعّضٌ متجزي، فالتوراة بعض كلامه وجزء منه، والإنجيل كذلك والقرآن كذلك، والقرآنُ أبعاضٌ وأجزاءٌ وسورٌ وآياتٌ وكلماتٌ.
وجميع هذا من المسلَّمات المعلومة لدى الكافة، دلّ عليها الحس، والعقل، والشرع، وهي أجلى من أن تحتاج إلى ضرب الأمثلة، وسياق البراهين.
فكلامه تعالى الذي هو أجزاءٌ وأبعاضٌ، بعضه أفضل من بعض، وليس ذلك من جهة المتكلم به وهو الله تعالى، وإنَّما هو من جهة ما تضمن من المعاني العظيمة، فإن كلام الله المتضمن للتوحيد والدعوة إليه، أفضل من كلامه المتضمن ذكر الحدود والقصاص ونحو ذلك، وما يخبر به عن نفسه وصفاته أعظمُ مِمَّا يخبر به عن بعض خلقه، وذلك لشرف الأول على الثاني.
وقد ورد في السنة الصحيحة ما يثبت ذلك ويوضحه ويُجلِّيه، فمن ذلك:
1 - حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في ميسر له فنزل ونزل رجلٌ إلى جانبه، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {ألا أخبرك بأفضل القرآن؟} قال: فتلا عليه {الحمد لله رب العالمين} (7).
¥