ومِمَّا سبق يُعلم أن إمامنا ابن عبدالبر لم يوفق للصواب في هذه المسألة، ويُمكن أن يُعتذر له بأنه - رحمه الله - ظن أن القول بتفضيل بعض كلام الله على بعض لايُمكن إلاَّ على قول الجهمية من المعتزلة وغيرهم القائلين بأن القرآن مخلوق، فإنه إذا قيل: إنه مخلوق أمكن القول بتفضيل بعض المخلوقات على بعض، فيجوز أن يكون بعضه أفضل من بعض، وهذا الظن الذي ظنه - رحمه الله - قد ظنّه غيره من العلماء الذين هم من أهل السنة ووافقوه في هذه المسألة فيما ذهب إليه.
(قالوا: وأمَّا على قول أهل السنة والجماعة الذين أجمعوا على أن القرآن كلام الله غير مخلوق فيمتنع أن يقع التفاضل في صفات الله القائمة بذاته. ولأجل هذا الاعتقاد صار من يعتقده يذكر إجماع أهل السنة على امتناع التفضيل في القرآن كما قال أبو عبد الله ابن الدراج في مصنّف صنّفه في هذه المسألة، قال: {أجمع أهل السنة على أن ما ورد في الشرع مِمَّا ظاهره المفاضلة بين آي القرآن وسوره ليس المراد به تفضيل ذوات بعضها على بعض، إذ هو كلام الله وصفة من صفاته، بل هو كله لله فاضل كسائر صفاته الواجب لها نعت الكمال}.
وهذا النقل للإجماع هو بحسب ما ظنه لازماً لأهل السنة، فلما علم أنهم يقولون: القرآن كلام الله ليس بمخلوق، وظن هو أن المفاضلة إنَّما تقع في المخلوقات في الصفات، قال ما قال. وإلاَّ فلاينقل عن أحد من السلف والأئمة أنه أنكر فضل كلام الله بعضه على بعض، لا في نفسه، ولا في لوازمه ومتعلقاته، فضلاً عن أن يكون هذا إجماعاً) (20).
وأخيراً نقول: إن ابن عبدالبر اجتهد في هذه المسألة فأخطأ، ومن اجتهد بقصد طاعة الله ورسوله بحسب اجتهاده لم يكلفه الله ما يعجز عنه، بل يثيبه على ما فعله من طاعته ويغفر له ما أخطأ فيه فعجز عن معرفته والوصول إليه.
وكلٌّ يؤخذ من قوله ويُرد إلاَّ المعصوم صلوات ربي وسلامه عليه.
الحواشي السفلية
(1) انظر: رهان في علوم القرآن للزركشي 2/ 67 - 73 النوع الثامن والعشرون: هل في القرآن شيء أفضل من شيء؟.
(2) انظر: الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 2/ 1131 - 1134 النوع الثالث والسبعون في أفضل القرآن وفاضله.
(3) الاستذكار 8/ 116، 117.
(4) البرهان في علوم القرآن للزركشي 2/ 67 - 69.
(5) انظر كتاب القرطبي: التذكار في أفضل الأذكار من القرآن الكريم ص 40 - 44، وقد رجح أن القول الصحيح هو القول بالتفضيل.
(6) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 2/ 1131، 1132، باختصار.
(7) حديث صحيح أخرجه النسائي في فضائل القرآن رقم [36] ص 72، وقال محققه فاروق حماده: إسناده صحيح. وانظر: الترغيب والترهيب للمنذري 2/ 342 رقم [2151].
(8) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل القرآن، باب: فضل فاتحة الكتاب رقم [5006] ص 995.
(9) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب: فضل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} رقم [5013] ص 996.
(10) من كتاب العقيدة السلفية في كلام رب البرية وكشف أباطيل المبتدعة الردية، تأليف: عبد الله بن يوسف الجديع ص 187 - 191 بتصرف يسير واختصار.
(11) وهي مطبوعة بتحقيق فواز أحمد زمرلي وخالد السبع العلمي، نشر دار الكتاب العربي، وهي أيضاً مطبوعة ضمن مجموع الفتاوى 17/ 5 - 205.
(12) انظر: الرسالة السابقة ص 91.
(13) التمهيد 19/ 231.
(14) من كلال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في الرسالة السابقة ص 167.
(15) فتح الباري 8/ 8.
(16) رواه أبو داود في كتاب الصلاة، باب: الدعاء رقم [1493] 2/ 166، 167]، والترمذي في الدعوات، باب: جامع الدعوات رقم [3475] 5/ 481، 482، وقال: هذا حديث حسن غريب. وغيرهما من أهل السنن، وهو حديث صحيح كما في صحيح سنن أبي داود رقم [1324] 1/ 279، وصحيح سنن الترمذي رقم [2763] 3/ 163.
(17) رواه البخاري في كتاب التوحيد، باب: قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ ا؟ للَّهُ نَفْسَهُ ,)} [آل عمران: 28] رقم [7404] ص 1410، ومسلم في كتاب التوبة، باب: في سعة رحمة الله تعالى، وأنها سبقت غضبه رقم [2751] ص 1100، 1101.
(18) رواه مسلم في كتاب الصلاة رقم [486] ص 201.
(19) باختصار من رسالة ابن تيمية السابقة ص 101 - 104.
(20) من رسالة ابن تيمية السابقة ص 87.
¥