وكون معنى الخير أكثر ثواباً مع كونه متماثلاً في نفسه أمر لايدل عليه اللفظ حقيقة ولا مجازاً، فلايجوز حمله عليه، فإنه لايُعرف قط أن يقال: هذا خير من هذا وأفضل من هذا، مع تساوي الذاتين بصفاتهما من كل وجه، بل لابُدّ مع إطلاق هذه العبارة من التفاضل ولو ببعض الصفات، فأمَّا إذا قدر أن مختاراً جعل لأحدهما مع التماثل ما ليس للآخر مع استوائهما بصفاتهما من كل وجه، فهذا لايعقل وجوده، ولو عقل لم يقل إن هذا خير من هذا أو أفضل لأمر لايتصف به أحدهما البتة.
وأيضاً ففي الحديث الصحيح أنه قال في الفاتحة: {لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها} فقد صرح الرسول بأن الله لم ينزل لها مثلاً، فمن قال إن كل ما نزل من كلام الله فهو مثلٌ لها من كل وجه فقد ناقض الرسول في خبره) (14).
فالآية التي ذكرها ابن عبدالبر تدل على خلاف ما ذهب إليه، كما قال ابن حجر: (ويؤيد التفضيل قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ)}) (15) ا هـ.
الشبهة الثانية: أن القرآن كلام الله، وكلام الله صفة من صفاته ولايدخل التفاضل في صفاته لدخول النقص في المفضول - منها.
وهذا الذي ذكره ابن عبدالبر بعضه صحيح، وبعضه غير صحيح.
فأمَّا الصحيح منه فهو أن القرآن كلام الله وكلام الله صفة من صفاته، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة.
وأمَّا غير الصحيح فهو أن التفاضل لايدخل في صفات الله لدخول النقص في المفضول منها، والسبب الذي دعاهم إلى هذا القول، هو أن صفات الله كلها فاضلة في غاية التمام والكمال، وليس فيها نقص، وإذا قلنا بأن بعضها أفضل من بعض كان ذلك وصفاً للمفضول بالنقص، وهذا لايجوز.
والجواب على هذه الشبهة أن يقال: (قول القائل: صفات الله كلها فاضلة في غاية التمام والكمال ليس فيها نقص، كلام صحيح، لكن توهمه أنه إذا كان بعضها أفضل من بعض كان المفضول معيباً منقوصاً خطأ منه فإن النصوص تدل على أن بعض أسمائه أفضل من بعض، وبعض أفعاله أفضل من بعض.
ففي الآثار، ذكر اسمه العظيم واسمه الأعظم، واسمه الكبير واسمه الأكبر، كما في السنن ورواه أحمد وابن حبان في صحيحه عن ابن بريدة، عن أبيه قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، فإذا رجلٌ يصلي يدعو: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلاَّ أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {والذي نفسي بيده، لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دُعي به أجاب} (16).
وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله كتب في كتاب فهو موضوع عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي} وفي رواية: {سبقت رحمتي غضبي} (17).
فوصف رحمته بأنها تغلب غضبه وتسبقه، وهذا يدل على فضل رحمته على غضبه من جهة سبقها وغلبتها، وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده: {اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك} (18)، ومعلوم أن المستعاذ به أفضل من المستعاذ منه، فقد استعاذ برضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته.
وأمَّا استعاذته به منه فلابد أن يكون باعتبار جهتين: يستعيذ به باعتبار تلك الجهة، ومنه باعتبار تلك الجهة، ليتغاير المستعاذ به والمستعاذ منه، إذ أن المستعاذ منه مخوف مرهوب منه، والمستعاذ به مدعو مستجار به ملتجأ إليه، والجهة الواحدة لاتكون مطلوبة مهروباً منها، لكن باعتبار جهتين تصح) (19) أ هـ.
ويقال أيضاً في الجواب على هذه الشبهة ما سبق ذكره من أنه لايوجد في الكتاب والسنة نص يمنع تفضيل بعض كلام الله على بعض، بل ولايمنع تفاضل صفاته تعالى، بل ولا نقل هذا النفي عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا عن أئمة المسلمين الذين لهم لسان صدق في الأمة بحيث جعلوا أعلاماً للسنة وأئمة للأمة.
بل النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة تدل على تفضيل بعض كلام الله على بعض وعلى تفضيل بعض صفاته على بعض، وقد سبق ذكر شيء منها في ثنايا هذا المبحث، وبالله التوفيق.
¥