وذكر في بعض تلك الأحاديث أن هذه الصفة لم يذكرها عنه نبي قبله ..
فقد عُلم أنه ما كان ليحتاج إلى هذا البيان ولا لينتفع به إلا أهل الإثبات لما وصف الرسل به ربهم، الجامعين بين الإثبات وبين شرطه وهو المباينة بين ما يثبتونه للرب وبين ما هو ثابت لغيره، لما تقرر عندهم أنه لا عدل ولا مثل له، ولا نظير وند، ولاسمي ولا سوي ..
وبعد هذا
تتبع كلام الله عزوجل الذي أخبر فيه عن أي صفة من صفاته فهو يدلك على مراده تعالى منا في الإيمان بتلك الصفة، وكذا فيما ثبت عن نبيه صلى الله عليه وسلم الذي شهد له في كتابه أنه لا ينطق عن الهوى ..
فمثلاً، ذكر الله تعالى لنفسه يدين في مواضع من كتابه ..
فذكر أنه خلق بها آدم وأخبرنا أنه قال لإبليس:" ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدَيّ".
وقال عنهما نافياً افتراء اليهود عليه فيهما ومثبتاً الكمال اللائق بهما: " وقالت اليهود: يد الله مغلولة، غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا، بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء".
وقال تعالى:" وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه".
فالله تعالى ذكر لنفسه اليدين، وذكر أنه خلق بهما آدم خصه بذلك عن إبليس وعن الملائكة فأمرهم بالسجود له، ووبخ إبليس لما أبى، وذكر له مناط قبح الامتناع وهو كونه في مقابل أمر من الله تعالى، وفي مقابل عبد أهله الله تعالى لذلك باصطفاء خاص إذ خصه من بينهم بخلقه بيديه.
وذكر تعالى أن يداه مبسوطتان، وأن الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه.
فكما أن السمع وموارده هي سوى البصر وموارده مع اشتراكهما في كونهما نوعين من الإدراك، وأن اتصاف الله تعالى بهما يعلم معناه كما أخبر، ولا يدرى كنه ذلك على الحقيقة التي هي في نفس الأمر.
فكذلك اليدان غير الوجه وغير القدمين ونحو ذلك مما أخبر الله تعالى به عن نفسه، فإنه ذكر كل صفة من ذلك في سياق يدل على المعنى الذي يبينها عن معنى الصفة الأخرى بحيث تُثبت كل صفة إثباتاً يخصها، فهذا القدر من المعنى هو المتاح .. وليس فيه مجال للخيال فالخيال فرع الرؤية، وربنا تعالى لا تدركه الأبصار، لم يخص بصراً دون بصر .. ، وإنما تعرف إلى الخلق بكلامه الذي هو أعظم آياته وبآلائه وأفعاله التي يشاهدون آثارها ..
فكل ما يدور في الخيال فهو مستقى مما أدركه الحس، ولا سبيل للحس إلى المغيبات المخلوقة من الروح والجن والملائكة فكيف بالرب الأعلى ذي الجلال والإكرام.
وهذه المخلوقات كمالاتها أمثلة مضروبة ينتقل منها الذهن بواسطة تكبير الرب إلى تسبيحه عن مماثلته فيها أو نقصانه عنها، بل يجزم العقل السوي أن الرب تعالى أولى بكل كمال حقيقي من خلقه، وأن له من الكمال غايته القصوى التي لا يدرى كنهها ولكن يعلم أنها فوق كل كمال ينتهي إليه إدراك الخلق في كل وقت ..
يعني كلما أدرك أحد من الخلق كمالاً في أي وقت من الأوقات فكمال الرب تعالى أكبر وأعلى.
ولهذا كان في أول ما أمر الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم بعدما أنزل عليه الوحي:" يا أيها المدثر، قم فأنذر وربك فكبر".
فالله تعالى له المثل الأعلى في السماوات والأرض.
وما في المخلوقات من النقص إنما أدرك الذهن فيها معنى النقص بمقارنتها بما هو أكمل منها وتنزه ذلك الأكمل عن ذلك النقص الذي لحقها فالله تعالى أولى بالتنزه عن كل نقص حقيقي ينزه عنه أحد من خلقه.
ولا عبرة بما يتوهمه الخيال كمالاً أو نقصاً فإن هذا لا يستقر في الذهن السوي، ولا تتفق عليه عقول الأسوياء ..
هذا موجز على سبيل التذاكر، أرجو أن يُنتفع به، ويتمم صوابه، ويسد خلله، وبالله التوفيق
ـ[أبوعمير الحلبي]ــــــــ[14 - 02 - 06, 03:05 م]ـ
أخي ثم أمر أريد التنبيه عليه من أجل الفائدة العامة أن مما يدل دلالة ليس فيها شك على أن ما ذكره الشارع من صفات إنما تحمل على الحقيقة لا المجاز و أننا وجب علينا التسليم لمعناها و إثباته لرب السماوات العلى هو أن الشارع قد وضع كل صفة في موضع يتناسب مع معناها الحقيقي بحيث أن العامي إذا سمعها لا يستنكر المعنى بل و يستأنس به دون إشكال , بمعنى أن قول الله _ جل و علا: (لما خلقت بيدي) قد تناسب مع المعنى اللغوي لليد إذ قد ثبت في الفطر دونما تردد أن اليد هي ما يتم الخلق بها و كذاك البسط و القبض. و لو كان المعنى غير معروف مبهم كما تدعي الفرقة المنكوسة (المفوضة) و أن اليد كالوجه كالساق إلي غير ذلك لا فرق بينهم و أن كلها معاني لصفات مبهمة لصحت الآية أن تكون (لما خلقت بوجهي أو بقدمي أو بساقي) وهذا مستنكر عند العوام فضلا عن العلماء الأذكياء. فلما حدث الاستنكار علم أن كل شخص سليم الفطرة قد أثبت المعني لصفة اليد و إن عجز عن أن يحدها بالقول. فإن قال قائل (لعلها جاءت على سبيل المصادفة) قلنا إن المصادفة شأنها أن يحدث في آية أو اثنين أما أن تكون معاني الصفات معتبرة في كل الآيات و الأحاديث إعتبارا لغويا حقيقيا لا مجازا مع كون هذا هو الأصل في حمل الكلام علم قطعا أن المقصود إثبات المعنى والتفريق بين معاني هذه الصفات تفريقا لغويا. ويزيد الأمر وضوحا قول النبي (صلى الله عليه و سلم): (اللهم إني أسألك النظر إلى وجهك الكريم في غير ضراء مضرة و لا فتنة مضلة) و قوله عن أهل الجنة: (فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى وجه ربهم) ومعروف أن الذي ينظر إليه الإنسان حين يخاطب غيره أو حتى حين التعارف أو حين الخطبة هو الوجه مهما كانت كيفيته لإنك تنظر ـ أول ما تنظر ـ إلى وجه القطة أو المرأة المخطوبة أو السائل مع تباين كيفية الوجه في كل واحد منهم فبذلك عرف أن هذا اشتراك في أصل المعنى لاكله. إذ أن ضابط المعنى في أي صفة: (ما تستطيع أن تثبته دون اعتبار للكيف) فتجد أن وجهك و وجه أي شيء آخر به اشتراك في أصل المعنى مع عدم التوافق في الكيفية. لذلك يعلم أن من حد الوجه: بما يحدث به المواجهة أو حد اليد بما يحدث بها القبض والسط هو تعريف لأصل المعنى لا كله و يبقى باقي المعنة محسوس في الفطر و إن لم تستطيع أن تعرفه و تنطق به. إذ أن الصدر أيضا يحدث به المواجهة. هذا و بالله التفويق.
¥