ومن عجيب قدر الله عز وجل، أنَّ أول مثال للمقاطعة الاقتصادية الشعبية - ضد دولة أخرى - في التاريخ الحديث يذكرها بعض القانونيين، هي المقاطعة التي قرّرتها جماعاتٌ في أصحاب الحرف الدانماركيين للبضائع الألمانية، احتجاجاً على الإجراءات التي اتخذتها الإدارة الألمانية للحدّ من استعمال اللغة الدنماركية في مقاطعة شليسفيغ الشمالية.
1 - لم أتعرض للتأصيل الشرعي في الفقه الإسلامي لمسألة المقاطعة الاقتصادية بوصفها وسيلة ضغط على من ينال من الإسلام وأهله؛ لأنَّ المسألة عولجت من الناحية الشرعية بجملة من الفتاوى والمؤلفات التي تبين المشروعية، وتؤكِّد ذلك بالآثار والنتائج، كما أنَّ الأمة اتخذت قرارها في المقاطعة الاقتصادية للمنتجات الدنمركية، فلم تحوجنا إلى إعادة التأصيل الشرعي ولله الحمد والمنّة.
كما لن أتحدث في هذا المقال عن العدالة الإسلامية في الأحكام الشرعية مع غير المسلمين، مع أنَّه موضوع جدير بالإبراز والتكرار في مثل هذه المرحلة التي تخلط فيها الأوراق من غير المختصين؛ وإنَّما لم أتحدث عنه هنا، لأنَّ المقاطعة الاقتصادية تفعيل لخيار مشروع لا يتنافى مع العدالة.
وإنَّما أردت كشف شيء من الجانب القانوني لهذه المسألة، ولاسيما بعد أن سلك الحزب الحاكم في الدانمارك مسلك المكابرة والبحث عن المسوغات بعد الوقوع في المشكلة؛ واستنجاده بالاتحاد الأوربي لإخراجه من ورطته، مع ما يثار حول حق مزعوم في رفع دعوى ضد المملكة العربية السعودية بشأن المقاطعة كما مرّ.
ولا شك أنَّ الموضوع أكبر من أن أَكشفه على حقيقته فيما يتعلق بالسلوك الحكومي الدانمركي في مقال، ولكن هذا لن يمنعني- إن شاء الله تعالى- من الحديث عن هذا الموضوع فيما يتعلق بالجهود الإسلامية، من خلال نقاط واضحة بعيدة عن التعقيد القانوني مع حذف التوثيق العلمي، مساهمة في نشر الوعي العام بمثل هذه القضايا، وتوضيحاً لبعض حججنا نحن المسلمين في تعاملنا العادل مع إجراء المقاطعة الاقتصادية الشعبية، وكيف يمكن للمجتمع الدولي أن يمنع مثل حدوث هذا التوتر مستقبلا.
2 - ومسألة المقاطعة الشعبية من المسائل التي اختلف فيها القانونيون الدوليون؛ وفي عالم شرّاح القوانين، فإنًَّ المسائل القانونية الدولية شائكة، والاختلاف القانوني– بوجه عام- لا يقارن بالاختلاف في المسائل الفقهية الخلافية لدى فقهاء المسلمين، لأسباب عديدة أهمها: أنَّ مرجعية المسلمين -كلِّهم - واحدة وهي الكتاب والسنة، فهما محلّ إجماع بينهم كما نصّ على ذلك علماء الأصول حتى عند المبتدعة كما يقول ابن تيمية- رحمه الله-؛ بينما لا توجد مرجعية متفق عليها بين القانونين، ودراساتهم في صورتها العلمية الموضوعية عقلية محضة، ولذا ربما تتعدّد بتعدّد المدارس القانونية وخلفياتها الفكرية والثقافية والعرفية، وما يتفرّع عنها؛ بل ربما تغير حكمها من جذوره لتقلبات المزاج السياسي أو الشعبي.
(تغير الرأي العام)، وهذا موضوع – أيضاً – يطول الحديث فيه،
وله مباحث خاصّة في بعض كتب القانون الغربية: ولكي تتضح الرؤية القانونية في هذا الموضوع، رأيت بيانه من خلال النقاط الآتية:
أولاً: المراد بالمقاطعة الاقتصادية ( Boycott) :
ورد التعبير بـ (المقاطعة الاقتصادية) في المادة (16) من عهد عصبة الأمم، كما ورد في المادة (41) من ميثاق الأمم المتحدة، ومن أشهر تعريفاتها، أنَّها: (إجراء تلجأ إليه سلطات الدولة أو هيئاتها وأفرادها المشتغلون بالتجارة لوقف العلاقات التجارية مع دولة أخرى، ومنع التعامل مع رعاياها بقصد الضغط الاقتصادي عليها، رداً على ارتكابها لأعمال عدوانية)، وهذا التعريف يتفق مع قاموس القانون الدولي والقاموس الدبلوماسي.
أو هي كما يقول جيرهارد فان غلان: (شكل حديث من الإجراءات الانتقامية، يشمل تعليق التعامل والعلاقات التجارية من جانب رعايا الدولة المتضرِّرة مع رعايا الدولة المسيئة).
ويفرِّق القانونيون الدوليون بين وسيلتي الضغط الاقتصادي الأخريين:
(الرد بالمثل) و (الأعمال الانتقامية): بأنَّ المقاطعة الاقتصادية قد تصدر من قبل الأفراد العاديين، بينما لا يصدر (الرد بالمثل)
و (الأعمال الانتقامية) إلا عن طريق الدول والحكومات، ومثلهما
¥