تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فقد استوفى المعنى في صدر البيت الثاني. لكنه ذيله في العجز تحقيقاً لمزيد من الفهم والتوضيح وقد جعله بعضهم أحد مواضع البلاغة الثلاثة: الإشارة والمساواة والتذييل، لأن فيه موقعاً جليلاً ومكاناً شريفاً خطيراً يزداد بهما المعنى انشراحاً والمقصد إيضاحاً. ومن الأمثلة الشعرية الدالة على إطناب التذييل، قول أبي نواس يمتدح الخليفة العباسي الأمين:

عَرمَ الزمانُ على الذين عَهِدتُهُمْ

بكِ قاطنينَ، وللزمانِ عُرامُ (52)

المعنى مستوفى في صدر البيت. والعجز المذيَّل جعل منه ما يشبه الحكمة عندما أكَّد شدَّة الزمان وثباتها على الأيام.

ومن البلاغيين القدامى، من جعل التذييل إضافة جملة يذيل بها الكلام ليتحقق بها ما قبلها، فقسمه أو قسم الجملة المذيلة قسمين:

1 - قسم لا يزيد على المعنى الأول، وإنما يؤتى بها للتأكيد والتحقيق.

2 - قسم يخرجه المتكلِّم مخرج المثل السائر ليحقق ما تضمن الكلام السابق من زيادة المعنى. كقوله تعالى:) إنَّ اللهَ اشترى من المؤمنينَ أنفسَهُمْ وأموالَهُمْ بأنَّ لهم الجنَّةَ، يُقاتلون في سبيل الله فيَقْتلون ويُقتلَون وعْداً عليه حقَّاً في التوراة والإنجيل والقرآن، ومَنْ أوفَى بعهدِهِ من اللهِ، فاسْتَبْشِروا بِبَيْعِكُمُ الذي بايَعْتُمْ به ((53) فهذه الآية الكريمة تضمنت القسمين من التذييل. أحد القسمين قوله تعالى:) وعْداً عليه حقَّاً (فقد تم الكلام. ثم أتى سبحانه، بهذه الآية تحقيقاً لما سبق. والقسم الآخر قوله تعالى:) ومَنْ أوفى بعَهْدِهِ مِن الله (، فخرج هذا الكلام مخرج المثل السائر لتحقيق ما تقدمه (54).

ومن أجود ما يصح شاهداً بلاغياً على إطناب التذييل، قول ابن نباتة السعدي، من شعراء البلاط الحمداني في القرن الرابع، مادحاً سيف الدولة:

لم يبق جودك لي شيئاً أؤمله

تركتني أصحب الدنيا بلا أمل (55)

فصدر البيت مكتمل المعنى، وليس العجز إلا تذييلاً حسناً، زاد في جمال المعنى وحقيقته ..

7 - إطناب التكميل أو الاحتراس:

وهو أن يؤتى به في كلام يوهم خلاف المقصود، بما يدفعه (56) وهو ضربان: ضرب يتوسط الكلام، كقول طرفة بن العبد يمدح قتادة بن مسلمة الحنفي:

فسقى بلادكَ –غير مفسدها،

صوب الغمام وديمة تهمي (57)

فجملة: "غير مفسدها" أكملت المعنى وحالت دون الوقوع في وهم غير مقصود، وهو ضرر مطر الربيع للديار؛ وإذا المطر نافع. ولهذا السبب سمى هذا النوع: احتراساً، كقوله تعالى:) فسَوْفَ يأتي اللهُ بقومٍ يُحبُّهمْ ويُحبُّونَهُ، أذلَّةٍ على المؤمنين، أعِزَّةٍ على الكافرين ((58) يقول القزويني، شارحاً:

فإنه لو اقتصر على وصفهم بالذلَّة على المؤمنين؛ لتوهم أن ذلتهم لضعفهم، فلما قيل: "أعزَّة على الكافرين" علم أنها منهم تواضع لهم، ومعنى ذلك أن هؤلاء القوم، مع شرفهم، وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين، خافضون لهم أجنحتهم (59).

ومثله قول ابن الرومي، فيما كتب إلى صديق له: إني وليُّك الذي لا يزال تنقاد إليك مودته عن غير طمع ولا جزع، وإن كنت لذي الرغبة مطلباً، ولذي الرهبة مهرباً (60).

ففي قول ابن الرومي كما نرى احتراسان متعاقبان، الأول، في قوله: "عن غير طمع ولا جزع" لأنه أزال توهم المودة الانتفاعية المتخوفة .. والثاني، في قوله: "وإنْ كنت" وما بعدها، لأنه بدَّد ما قد ينشأ في الاحتراس الأول، من شعور بانتفاء دوافع الرغبة والرهبة لدى الناس .. ونرى أن هذا الشاهد من أفضل الأمثلة على إطناب التكميل أو الاحتراس.

ومن هذا النوع قول الشاعر السعودي المعاصر الأمير عبد الله الفيصل:

والنار تعشق، إن تَغِب، فإذا دنت

بك فرَّ من رمضائها الموؤودُ (61)

فالاحتراس من جعل النار معشوقة، اقتضى استكمال المعنى باستدراك لطيف، هو "إنْ تَغِبْ". ومثله، للشاعر نفسه، مكملاً ومحترساً مرتين، على طريقة الاستدراك:

قد ساءلتْ من أنتَ؟ قلتُ أنا الذي

قضَّيتُ عمري –مُدنفاً- أهواكِ

أرنو إليك –على بعادِك- مثلما

يرنو الحزينُ الساطعُ الأفلاكِ (62)

ونختم الكلام على التكميل أو الاحتراس، بإيراد شاهدين معبرين يزيدان في تعريفهما وتحديد ملامحهما، الأول: بيت شعري للشاعر الإسلامي التابعي كعب بن سعد الغنوي:

حليمٌ إذا ما الحلم زيَّن أهلهُ

مع الحلم في عين العدو مهيبُ (63)

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير