البيت في رثاء أخيه أبي المغوار، وقد نعته بالحلم وهو الرويّة والحكمة. وصفة محمودة كهذه توهم أنه لا يهابه أحد، حتى أعداؤه. فأردف الشاعر بالقول: إنه مع ذلك يخافه الأعداء ويتهيبونه. وهذا إطناب احتراسي جيد.
والشاهد الثاني: بيت لأبي الطيب، مادحاً علي بن محمد بن سيَّار بن مكرم التميمي:
أشد من الرياح الهوج بطشاً
وأسرع في النوى منها هبوبا (64)
فإنه لو اقتصر على وصفه بشدة البطش لأوهم ذلك أنه عنف كله، ولا لطف عنده. فأزال هذا الوهم بالسماحة (65). وهذا من جيد التكميل والاحتراس في الإطناب.
8 - إطناب التتميم:
وهو أن يؤتى –أي التتميم- في كلام لا يوهم خلاف المقصود، بفضلة تفيد نكتة، كقول الله عزَّ وجل:) ويُطْعِمُونَ الطَّعامَ على حُبِّهِ ((66). فإضافة "على حُبِّه" أتمت المعنى وزادت عليه فأفادت القارئ: أي إنهم لا يطعمون كيفما كان، بل طعاماً مشتهى وعزيزاً ..
مثال آخر، قول الشاعر:
إني على ما تَريْنَ من كِبَري
أعرف من أين تؤكل الكَتِفِ
في البيت نكتة لطيفة تحمل معنى القوة والذكاء، في المرحلة المتقدمة من السن. وهذه النكتة، كامنة في صدر البيت الذي يبدأ بجملة اسمية تقريرية، خبرها في عجز البيت. أي أني ذكي قوي، رغم كِبرَ سني، أو بالعكس: أنا كبير السن، لكنني لا أزال أحتفظ بقواي العقلية. ومثله تماماً، ولكن في اتجاه آخر، قول زهير بن أبي سلمى مادحاً هرماً بن سنان أحد أجواد عصره المشهورين:
مَن يَلقَ يوماً –على علاَّته" هَرِماً
يَلقَ السماحة منه والندى خُلُقا (67)
التتميم كامن في الفضلة "على علاَّته" التي أفادت استمرارية السجايا الكريمة في الممدوح، سجايا لا تؤثر فيها الأحداث وكثرة الانشغالات، لأنها متأصلة فيه لا يحول دونها شيء ...
ومن جيد التتميم، في النثر، قول أعرابية لرجل: كبَتَ الله كلَّ عدوٍّ إلا نفسك (68).
فالقول –على ما فيه من تمام المعنى- ناقص لأنه مطلق. وقولها: "إلاَّ نفسك" إضافة لازمة لأنها أوفَت على حقيقة الدعاء وحُسن دلالته ومساره الإنساني. فنفس الإنسان تجري مجرى العدوّ له لأنها تورطه وتدعوه إلى ما يوبقُه (69).
ومن التتميم ما يسيء إلى القصد، فيصبح إطناباً نافلاً، كقول ذي الرمَّة:
ألا يا سلمي يا دار مَيَّ على البِلى
ولا زال منهلاًّ بجرعائِكِ القطرُ (70)
يدعو الشاعر لحبيبته بالسلامة رغم ما أصاب دارها من بلى واندثار. لكنه في العجز، أو هي كما لو أنه يدعو عليها لأن استمرار انهمار المطر على التربة والنبات يفسدهما، فأساء إلى المعنى المقصود من حيث لم يدر ..
9 - الإطناب بالاعتراض:
وهو أن يؤتى في أثناء الكلام، أو بين كلامَين متصلين معنى، بجملة أو أكثر، لا محل لها من الإعراب، لنكتة سوى ما ذكر في تعريف التكميل (71).
*ومن وجوه الاعتراض ههنا، التنزيه والتعظيم كما في قوله تعالى:) وَيجعلونَ للهِ البناتِ، سُبْحَانَه، ولهم ما يَشْتَهون ((72). فقد اعترضت جملة: "سبحانه سياقَ الآية، تنزيهاً لذات الإله من نسبة الولد إليه، أو تعجباً من قولهم (73).
*ومن وجوهه التنبيه، كما في قول الشاعر:
واعْلَم –فعلمُ المرء ينفعُهُ-
أنْ سوف يأتي كلُّ ما قُدِرا (74)
فالجملة الاعتراضية في الصدر، تنبيه مفيد، يزيد في عمق الوعظ الشعري وترسيخ مغزاه الحكمي.
*ومن وجوهه التكريم، كما في قول المتنبي مادحاً كافوراً في بائيته: "كفى بك داءً":
وتحتقرُ الدنيا احتقارَ مجرِّبٍ
يرى كل ما فيها، وحاشاك، فانيا
شرح العكبري هذا البيت فقال: أنت عظيم القدر. فلهذا تحتقر الدنيا احتقار من جربها وعرفها، وعلم أنها فانية، ولا يبقى إلا ذكر الجميل بين الناس .. "وحاشاك": من أحسن ما خوطب به في هذا الموضع، والأدباء يقولون: هذه اللفظة حشوة، ولكنها حشوة فستق وسكر؛ ومثلها في الحشوات قول عوف بن المحلَّم الشيباني:
إنَّ الثمانين –وبلِّغْتَهَا-
قد أحوجَت سمعي إلى تَرجُمان (75)
فقد اعترضت "وبلِّغْتَهَا" صدر البيت لفائدة كبيرة ما أحوج السامع إليها لأنها تحدث فيه هزة التنبيه أو الانتباه لما يرمي إليه الشاعر من تأكيد الكِبَر والشيخوخة.
*ومن وجوهه المعروفة التخصيص بزيادة التأكيد، كقول الحق تبارك:) ووصَّيْنا الإنسانَ بوالديه، حَمَلَتْه أمُّهُ وَهْناً على وهْن، وفِصالُهُ في عامَيْن، أنِ اشْكُرْ لي ولوالديكَ ((76).
¥