تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إذ الصورة التي يكدح العقل ويكد الذهن في استخراج أجزائها وربط علاقاتها، تكاد تكون بعيدة عن الدائرة الفنية للتشبيه، لأن إدراك المعقولات بعملية عقلية خالصة، لا يكون من اليسر كإدراكها بالحسيات المشاهدة، وإن شئت فانظر إلى قوله تعالى: يَومَ نَطوي السماءَ كَطَي السّجلِ للكُتُبِ.

فالآية ناظرة إلى تجديد الخلق للجزاء، وبعثهم يوم القيامة، وإعادتهم بعد إفنائهم، فهذه السماء المشاهدة النيرة بالنجوم والكواكب والشمس والقمر سوف تطوي في ذلك اليوم كما يطوي الكتاب على ما فيه، ثم ينشر للعمل به، والاستفادة من محتوياته، فالمشبه والمشبه به مما يدرك بالحواس الناظرة والمتصورة تصوراً بدائياً لا عناء فيه ولا تكلف، تمثّلت الصورة فيه واضحة، وتحققت الفكرة بسيطة سليمة، تدرك في الأثر والشكل والحركة والنظام.

لهذا نجد تشبيهات القرآن باستخدامها جميع هذه الأصناف أكثر تأثيراً، وأقوى دلالة من المشبه، لتحقيق الجوانب التمثيلية من جميع جهاتها متجاوبة مع ما يحدثه هذا التنوع من تأثير على النفس، كما ستلمس هذا جلياً من خلال النماذج القرآنية الآتية:

أ_ حينما يريد الله أن يشبه قلوب بني إسرائيل قساوةً استعمل المدلول الحسي لإصابة المعنى المراد فقال تعالى:

ثُمَّ قَسَت قُلُوبكم من بعدِ ذلكَ فَهيَ كالحجارةِ أو أشدُّ قَسوة.

فهذا الحجر القاسي المتصلد قد ينفجر منه الماء، وقد تجري منه العيون، وقد تشقق الأنهار، ولكن قلوبهم أشد قسوة، وأكثر غلظة، إذ ذهب لينها، وتلاشت رقتها، وذلك غاية ما يتصور، ونهاية ما يحتسب وذلك أن يكون القلب أقسى من الحجر.

إن التطلع الواعي لتشبيه هذه الآية يعني اضطراب النفس حول هذا المصير المؤلم لهذا الجزء الشفاف من البدن وهو القلب، وليس المراد هو هذا العضو الصنوبري بمركباته العضوية، وإنما المراد هو هذا العضو بما ضم بين جانبيه من مخايل الرحمة والرقة والهدى والإيمان، وما يستلزم ذلك من الهداية والرشاد والاطمئنان، وبهذا التشبيه تحقق نفي هذه المستلزمات جميعاً عن القلب، فعاد حجارة لا تضر ولا تنفع، صماء لا تستهدي ولا تستشير.

ب_ وحينما يريد القرآن الكريم التزهيد في الحياة الدنيا، فإنّه يسلك عدة سبل لذلك، ولكنه حينما يعتمد التشبيه الفني صورة حية لذلك، فإنه يعمد إلى هبات الطبيعة، ومقومات الحياة، فيصورها بما يبلغ به المراد، فتجده من خلال ذلك ينظر إلى الماء بوصفه عنصراً أساسياً في حياة الإنسان، فهو يدور معه حيث دار، ويتعلق به أنى وجد، فارتباطه به ارتباطاً أساسياً في حياة الإنسان، فهو يدور معه حيث دار، ولكنه مع ذلك ينتفع به انتفاعاً محدوداً قدر الحاجة، وما زاد على ذلك فهو سارب في سبيله، لا دوام له ولا بقاء، فعمد إلى تشبيه الحياة الدنيا به من خلال هذا الملحظ الدقيق في محاولة تفرض التأثير على النفس، وتوجه الانتباه المتزايد، فقال تعالى:

واضرب لَهُم مَثلَ الحياةِ الدُّنيا كماءٍ أنزلناهُ مِنَ السماءِ فاختلطَ بهِ نباتُ الأرض فأصبحَ هشيماً تذروهُ الرياحُ وكانَ الله على كُلِ شيءٍ مقتدرا.

ج_ وحينما يرصد القرآن الكريم البيئة المختلفة لطبقة من الناس همها علفها، وشغلها تقممها، لا تفكير لها إلا في الملذات، ولا أمر عندها إلا في ظلال الشهوات، فالمتعة لا تتحقق لديهم إلا بانتقاء الأطعمة، والحياة لا تصفو إلا بأطايب المأكولات، عمد إلى تصوير حالهم مع كفرهم، وكونهم بذلك لا يرجون إلا الحياة الدنيا، ولا يعملون إلا لها، فقال تعالى: والَّذين كفروا يَتَمتَّعُونَ ويأكُلُونَ كما تأكُلُ الأنعامُ ....

في كل هذه النماذج القرآنية نرى العلاقة قائمة بأصالة متناهية بين المشبه والمشبه به. لهذا نجد البلاغيين بحق قد اشترطوا وجود العلاقة بين المشبه والمشبه به بما يتناسب مع الإدراك، لأنه تقويم للتشبيه من الولوج بباب الإيغال والإيهام، وهذا يقتضي أن ينسجم التشبيه في طرفيه بما تسيغه الحواس المختلفة، لأن الجوانب الحسية قلما تتداخل مع بعضها، وتختلف باختلاف الحواس عند الإنسان، فهي تدرك حيناً بالعين المجردة، وتدرك حيناً بالعقل الفطري، وتدرك حيناً بالواقع الملموس المشاهد، لئلا تتهافت الصور في التشبيه فتعود شاحبة غير متجانسة، أما إذا كانت متجانسة _كما هي الحال _ في النماذج السابقة فقد اقتربت من الفهم، واستقرت في المخيلة، بما

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير