تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أحسن الله إليكم إخوتي الكرام، فإن إسهاماتكم قيّمة، رفع الله قدركم وحطّ وزركم .. واسمحوا لي بمشاركة سريعة أسأله تعالى أن ينفع بها، فأقول مستعيناً بالله ربي وربكم:

إن ما تبيّن لي من مداخلاتكم الكريمة أن الفرق بين الإيتاء والإعطاء لا يتعدّى قولين:

الأول: الإيتاء يدل على ثبات وقرار، والإعطاء يدلّ على التكرار ..

الثاني: الإيتاء يكون في المعنويات وليس فيه تخصيص، أما الإعطاء فيكون في الحسيات وفيه معنى التمليك.

وإن أردنا نحن الوصول إلى ما ينفعنا ويشفي غليلنا بإذن الله تعالى، فما علينا إلا أن نستقريء آيات الكتاب الحكيم، كما بيّن ذلك أخونا أبو عبد المعز، فإن فيها الجواب الشافي إن شاء الله.

أما ما نذهب إليه ونؤيده، فهو القول الثاني، وذلك لما في الإعطاء من خصوصية، وما في الإيتاء من عمومية. وأورد هنا مجمل ما منّ الله به علينا، ومما وجدناه في مؤلفات العلماء.

أولاً: إن الأصل في العطية عدم التكرار، ونستدل على هذا من قوله تعالى: "قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى"، فلا نرى فيه تكراراً بالنظر إلى كل موجود على انفراد، إذ إن كل مخلوق يُعطى خلقه مرة واحدة. وقوله تعالى: "وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى"، فقد ذكر الجويني رحمه الله أن العطاء يتكرّر إلى أن يرضى كل الرضى، ونرى أنه عطاء واحد متّصل حتى يحصل الرضا منه صلى الله عليه وسلم. والشاهد الثالث يؤكد نفي التكرار حسب قول الجويني نفسه:"وإعطاء الكوثر للإنتقال منه إلى ما هو أعظم منه"، ففي هذا إقرار بنفي التكرار عن اللفظ.

أما بالنسبة للإيتاء فإنا نراه يدلّ على الثبات والتجدّد معاً، وفي الأول قرار وفي الثاني تكرار، فمثال الأول قوله تعالى: "وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ"، فهذا لا تحوّل عنه، ومثال التكرار والتجدّد قوله تعالى: "وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ"، فإيتاء الزكاة مع أنه ثابت في الحكم إلا أنه متكرّر كل حول من حيث الفعل.

ثانياً: الإعطاء يكون صلة ومنحة عن حبّ ورضا، والدليل على ذلك قوله تعالى: "إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ"، وقوله: "رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى"، وقوله: "جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًاً"، والعطاء في هذه الآيات ابتداء فضل من الخالق سبحانه إلى المخلوقين، ولا يخفى في في هذه الآيات من معنى المنحة والرضا على المعطَى.

أما الإيتاء فأعم من الإعطاء، لأنه يكون عن رضا النفس أو بعد إكراهها. مثال الرضا قوله تعالى: "أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم"، وكذلك قوله تعالى: "وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ"، وأيضاً قوله تعالى: "فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ". ومعنى الرضا في هذه الآيات لا يحتاج إلى بيان. أما مثال الإكراه فقوله تعالى: "وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ"، ففيه مغالبة النفس وإكراهها على تنفيذ ما أمرت به. ولأنه إيتاء لم تجد النفس به سماحة ربما حدثت صاحبها باسترجاع ما آتت، كقوله تعالى: "وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ"، وليس الإعطاء كذلك.

ثالثاً: الإعطاء لما كان صلة عن رضا وطواعية فإنه لم يرد فعل الأمر منه في القرآن الكريم، وإنما ترك لخيار النفس، كقوله تعالى: "هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ"، فلا إلزام بأحدهما، يقول أبو حيان: "أي لا حساب عليك في إعطاء من شئت أو حرمانه"، وهو ما أشرنا إليه من حرية الإعطاء ورضا النفس به. ومثل ذلك قوله تعالى: "وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ"، فالآيتان لم توجّها إلى الأمر بالإعطاء أو منعه، وإنما تركتاه للخيار إباحة. ومما يؤكد معنى الصلة عن سماحة النفس في الإعطاء، المقابلة بين أعطى وبخل في قوله تعالى: "فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى .. وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى .. "، فالمقابلة بينهما تدلّ على أنهما يشتركان في كونهما من سجايا النفس.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير