أما الإيتاء فقد صرّح القرآن الكريم بفعل الأمر منه في كثير من آياته الكريمة، كقوله تعالى: "وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ"، وقوله تعالى: "وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ".
ومما يؤكد ما ذهبنا إليه من عموم الإيتاء واشتماله على الرضا والكره كونه أُمر به في الحالين:
فمن الأمر بالإيتاء مع رضا النفس قوله تعالى على لسان موسى عليه السلام: "فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا"، لأننا لا نظن أن فتى موسى عليه السلام كان كارهاً للإتيان بالغداء، وقد نصّت الآية الكريمة على أنهما كانا متعبين، وتعب السفر يشتمل على الجوع، ونحسب أن ذلك علّة الفاصلة القرآنية في هذه الآية، ولو ختمها بالجوع لما فُهم منه التعب. ولذلك آثر ذكر النّصب على الجوع، فموسى وفتاه كانا جائعية، والجائع ينشط للطعام ويحبّ الإتيان به.
ومن الإيتاء على كره من النفس قوله تعالى: "وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ"، فبعض النفوس ترغب عن إيتاء الحقوق، وما شهدته الجزيرة العربية عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من حروب الرّدّة كان سببه امتناع بعض القبائل عن أداء الزكاة التي أمروا بها. ومثل ذلك أيضاً ما عزم عليه أصحاب الجنة في سورة القلم من حرمان الفقراء نصيبهم، قال تعالى: "فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ".
والخلاصة أن الإعطاء لا يكون إلا عن سماحة نفس، ولذلك لا يؤمر به في القرآن، أما الإيتاء فيكون برضاها ومن غير رضاها، وقد ورد فعل الأمر بالإيتاء في الحالين، وهذا يؤكد خصوصية الإعطاء وعمومية الإيتاء.
رابعاً: الإعطاء بوصفه صلة تصدر عن رضا لا يكون إلا في الخير، كقوله تعالى "إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ"، "وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى"، "عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ"، "كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا"، "جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا"، "هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ".
ويلاحظ في كل ما ورد من الآيات أنه لم يذكر نوع العطاء خيراً أم شراً، اكتفاء باختصاص اللفظ في الدلالة على ما فيه من معنى الخير والنعمة، دون الشر والنقمة. في حين أن الإيتاء يمكن أن يكون شراً وعذاباً، قال تعالى: "رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ"، فقد نصّت الآية الكريمة على نوع الإيتاء، وقد ورد الإيتاء كذلك في سياق واحد يوحي بالثواب مرة، والعقاب أخرى، وذلك في قوله تعالى: "فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ .. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ"، فكلاهما إيتاء، ولكن أولهما خير، والثاني شر، وفي هذا أيضاً ما يعزّز خصوصية الإعطاء، وعمومية الإيتاء.
خامساً: الإعطاء لمّا كان خيراً واختياراً، عن حب ورضا، لم يكن محلاً للفتنة والإختبار، واستقراء آيات الإعطاء في القرآن الكريم خير دليل على ذلك، في حين أن الإيتاء ورد في غير موضع من القرآن الكريم يدلّ على الإبتلاء والإمتحان، كقوله تعالى: "لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم"، وقوله تعالى: "وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاء مُّبِينٌ"، وذكر الإيتاء أيضاً في آيات لا تدلّ على ابتلاء واختبار، كقوله تعالى: "وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ"، وهذا وجه آخر لما بين الإعطاء والإيتاء من خصوص وعموم.
سادساً: الإيتاء يحتمل النزع من المؤتى، فالله تعالى يؤتي الملك من يشاء وينزعه عمن يشاء. أما العطاء فلا يمكن نزعه لأنه أصبح ملك المعطى إليه، كما في قوله تعالى: "هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ".
والذي نخلص إليه ما يلي:
الإعطاء:
- تمليك عن سماحة نفس
- لا يمكن أن يكون إلا في الخير
- لم يرد الأمر به في القرآن الكريم
- لم يكن محلاً للبلوى
- يكون مرة ولا تتكرّر
الإيتاء:
- يكون تمليكاً وغير تمليك
- يستخدم مع رضا النفس وسخطها
- يستخدم في الخير والشر
- كثر ورود فعل الأمر منه في القرآن الكريم
- يدلّ على اختبار في بعض الآيات، ولا يدلّ على ذلك في آيات أخرى
- يدلّ على القرار والتكرار معاً
ففي الإيتاء ازدواجية
وفي الإعطاء أحادية
وهذا ما يعزّز القول بعموم الأول وخصوص الثاني.
والله تعالى أعلم
ـ[أبو عبد المعز]ــــــــ[04 - 05 - 2005, 05:00 ص]ـ
الاخ الكريم لؤي الطيبي ...
سلام الله عليك ...... ومرحبا بك بين اخوانك فى الفصيح ...
أهنئك على نفسك الطويل فى البحث والاستقصاء ..... فلعلنا نأخذ منك مما آتاك الله .. (أم تفضل ان اقول مما أعطاك الله) وأيا ما اخترت .... فأنت على الرحب والسعة .....
¥