قال ابن اسحاق: " وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة عشرون رجلاً أو قريباً من ذلك من النصارى حين بلغهم خبره من الحبشة فوجدوه في المسجد فجلسوا إليه وكلموه وقبالتهم رجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة. فلما فرغوا من مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا دعاهم رسول اله صلى الله عليه وسلم الى الله وتلا عليهم القرآن. فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدمع ثم استجابوا له وآمنوا به وصدّقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتبهم من أمره ".
وهذا ما أخبر به القرآن بأن من أهل الكتاب من آمن به تصديقاً لما جاء في كتبهم، قال تعالى: " قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ "، وقال: " الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ".
ومن الثابت تاريخياً أن أهل الكتاب كانوا يستفتحون به على أعدائهم أي يستنصرون به، وقد ذكر القرآن عنهم ذلك. قال تعالى: " وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ ".
قال الشوكاني في (فتح القدير): "الاستفتاح: الاستنصار، أي كانوا من قبل يطلبون من الله النصر على أعدائهم بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي يجدون صفته عندهم في التوراة ".
وقال ابن كثير: "أي وقد كانوا من قبل مجيء هذا الرسول بهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين اذا قاتلوهم ".
وقال ابن عباس: " كانوا يهود خيبر تقاتل غطفان، فكلما التقوا هزمت يهود خيبر فعاذت اليهود بهذا الدعاء وقالت: اللهم إنا نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم. قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان. فلما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم كفروا به ".
فهذه أمور ثابتة تاريخياً ذكرها القرآن، ولو لم يكن ذلك ما كان لذكره معنى ولأنكره أهل الكتاب وأنكروه. فأهل الكتاب كانوا ينتظرون نبياً يجيء، وكانوا يستفتحون به في الحرب وأن هذا النبي عندهم صفته ونعته واسمه وأن محمداً صلى الله عليه وسلم ادعى أنه هو المقصود وأن أهل الكتاب يعلمون ذلك، فآمن من علمائهم من آمن وجحد من جحد.
ومع أن التوراة والإنجيل قد طالتها أيدي المحرفين والمبدلين، إلا أنه ما زالت فيها بقايا نصوص لا بأس بها تنص نصاً واضحاً على أن المقصود منها هو محمد صلى الله عليه وسلم. ومن البشارات التي استخرجها علماء المسلمين من التوراة والانجيل والتي تنادي بظهور هذا النبي في كتبهم ما نحن بصدده هنا. وهو ما جاء في قول الحق تبارك وتعالى: " الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ ".
فقد جاء في سفر التثنية في الاصحاح الثامن عشر في العدد (18): " أقيم لهم نبياً من وسط اخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به ".
يقول الدكتور عبد الأحد داود (القسيس دافيد بنجامين كلداني سابقاً) في (محمد في الكتاب المقدس): " إذا كانت هذه النبوءة لا تنطبق على محمد صلى الله عليه وسلم، فإنها تبقى غير متحقّقة ولا نافذة ".
ويقول الآلوسي في (الجواب الفسيح): " إن قوله (أجعل كلامي في فمه) إشارة الى أن ذلك المبشر به نبي ينزل عليه كتاب، والى كونه أمياً حافظاً للكلام واعياً له في صدره ضابطاً له في قلبه، لا بواسطة لوح وأقلام ".
¥