تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

الثانية: عزوف الدارسين عن هذه المصنفات ظنا منهم أنها غير صالحة لتحقيق المقصود، مما فوت عليهم العلم الغزير، وهذا هو لب قضيتنا التي نحن بصدد تأصيلها، والتي هي من جملة الخدمة المطلوبة للنهوض بالمذهب المالكي من خلال عرض أقوال أئمة المذهب وحفاظه على ميزان النصوص وردها إلى أصلها الأول دون تكلف.

فكم من كتاب ناقش المسائل الفقهية وتحريرات الفقهاء المجردة عن الدليل فكان فريدا في بابه من جهة الترتيب والتبويب والإيرادات والترجيحات، وهذا طبعا يفعل الجانب العلمي والمنهجي من عدة وجوه.

فنحن لسنا بصدد اتهام أسلفنا كما زعم بعض المغرضين ممن لا زاد لهم ولا متاع إلا ألسنة سليطة تجرهم للوقوع فيهم والنيل منهم، والحط من قدرهم وإنكار فضلهم.

معاذ الله أن نكون منهم، والمنصف من يبحث في حيثيات أحوالهم بمختلف مراحلها، فنلتمس لهم العذر لعل ذلك نتيجة ظروف وعوامل فرضتها، وأحوال اقتضتها، ليس هذا محل بيانها وتفصيلها.

ومن هنا ندرك يقينا كيف استطاع الفقه المالكي عندما أتى عليه حين من الدهر من العزوف عن الدليل والإعتكاف على الإختصار والحواشي والشروح الجافة لفك ألغازها وحل مغاليقها، أن يجد من متانة مصطلحه ما حماه من أن يفسد جوهره النقي، وأن يجد من ثروته الفكرية ما تفضل به على سواها فجاءت أصيلة محكمة خالية من التقعر والالتواء، فكانت سببا قويا وباعثا حثيثا لتجديد تصانيفه، بما يربط الأحكام بأدلتها، وبيان وجوه استثمارها وطرق تحقيق مناطها.

لذلك كان من الصواب أن نبرز زيف هذه الدعاوى فضلا عن إصلاحها.

فخدمة المذهب وتجديد معالمه من خلال بناء هيكلته وتحديد وجهته تعطيه القوة من جهة، وتسهم في انتشار المذهب وذيوعه من جهة أخرى، وهذه هي وظيفة التلاميذ وحفاظ المذهب، وما مذهب الليث بن سعد، وابن جرير الطبري والأوزاعي وغيره ببعيد. فقد ضاعت بسبب تقاعس التلاميذ والأتباع فلم يبقى منها إلا النزر القيل.

والدارس للمذهب المالكي في حلته الجديدة يدرك حقيقة هذه المسألة ومدى تأثيرها في تفعيل المذهب مما نتج عنه صيحة مدوية للعودة إلى الدليل فهذا حافظ المغرب أحمد بن صديق الغماري رحمه الله في مقدمة كتابه الموسوم " مسالك الدلالة " في تخريجه لرسالة ابن أبي زيد القيرواني يتأسف لقلة الاستدلال بالنصوص في كتب الفقه المالكي، خاصة المتأخر منها.

لهذا، ظهرت في الآونة الآخرة بوادر حركة الاستدلال الفقهي للإخضاع المسائل الفقهية إلى الدليل وتخريج أدلة المذهب من جهة، والدراسات المنهجية والعلمية للمسألة من جهة أخرى.

مما فتح الباب أما ثلة من الغيورين على المذهب أن يسلكوا هذا الاتجاه، فكانت جهودا مشكورة، لكنها غير كافية، لأن خدمة المذهب أحسبه مشروع أمة، لا أفراد.

وإليك بعض هذه النماذج:

- "مسالك الدلالة" للمحدث أحمد بن الصديق الغماري.

- "إتحاف ذوي الهمم العلية بشرح العشماوية" للشيخ عبد العزيز الغماري.

- "العرف الناشر في شرح وأدلة ابن عاشر" للمختار بن العربي مومن.

- "المبين عن أدلة المرشد المعين" لمحمد العمراوي.

- "الفقه المالكي وأدلته" للشيخ الحبيب بن طاهر

- "مدونة الفقه المالكي" للدكتور الصادق الغرياني.

- "تخريج مدونة الإمام مالك" رسالة الدكتوراه طبعت بالإمارات.

وغيرها من المؤلفات النافعة التي أبانت على علو كعب أصحابها في إرجاع الفروع إلى الأصول. إلا أن البعض منها لا يخلو من ملاحظات يمكن إجمالها في كيفية إيراد الدليل دون تكلف، فكثيرا ما يذكر الدليل لأجل الإستدلال فحسب، هذا هو الأصل الذي لا ينكره أحد، لكن ينبغي فقه الدليل بالنظر في مقتضاه، والوقوف على ماهيته ومدلوله وفق قانون العلم لتحقيق مناطه لإثبات الحكم ومقاصده، وبالتالي فهم مراد الشارع الحكيم باعتباره الغاية.

ومع ذلك ما زالت دواوين الفقه المالكي بحاجة إلى خدمة في المجال الاستدلالي تقوّي منزعها، وتميّز سمينها من غثّها، حتى يُعبَد الله بالدليل، ويظهر لكل مذهب فضله في العمل بالسنن، والأخذ بالآثار.

هذا بالنسبة للجانب الفقهي، أما الجانب العقدي فقد أصابه الحيف أكثر من الأول، بحيث أعتبره تناقض جلي فالانتساب لمذهب الإمام مالك رحمه الله، لأن الإنتساب للشيء يقتضي الالتزام به جملة وتفصيلا، لأن التجزيء مفضي إلى خلق هوة بين صاحب المذهب والأتباع، مما فتح المجال إلى تبني عقائد ليست من صميم مذهب الإمام مالك رحمه الله الذي هو جزء لا يتجزأ عن عقيدة السلف. فكون معظم المالكية تبنوا العقيدة الأشعرية، كان سببا رئيسا إهمال العقيدة المالكية الأصيلة المرتبطة بمشكاة الوحي على فهم السلف.

فكان واجب كل حارس لحدود المذهب المالكي أن يرجع المذهب إلى أصله إحقاقا للحق أولا، و إنصافا للمذهب وصاحبه ثانيا.

لكن هذا لا يمنع وجود بعض المحاولات الجادة من بعض المنصفين، ولعلي أرجع في المستقبل القريب للتعريج عن جهودهم بحثا وتنظيرا.

وختاما فالمذهب المالكي غني بأصوله الواسعة العميقة، وقواعده الكثيرة المجردة.

وبذلك يستطيع استيعاب كل ما يجد في حياة الناس من الوقائع والحوادث على اختلاف أنواعها وحجمها وطبيعتها. "المغرب مالكي ... لماذا؟ للدكتور محمد الروكي".

فإذا كانت هذه هي بنية المذهب المالكي فأين خدام المذهب؟

ومن هنا كان حريا بالاهتمام أن يُعمل على رسم هذه الكلمات في هذا الموضوع يجيب عن الاستفسار السالف، الذي طالما راودني الوقوف على حقيقته.

فما كان صوابا فمن الله وما كان خطأ فمن نفسي والشيطان، والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات.

جمع وترتيب الفقير لعفو ربه: أبو يحيى رشيد الشهيبي المغربي غفر الله له ولوالديه.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير