تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وكلا القولين أخذ بمبدأ الذرائع، وسعى إلى درء الضرر، فالقول الأول باعتبار أن التراضي شرط بين البائع والمشتري، وهذا الرضى ينتفي بفرض سعر محدد (5)، وهذا إكراه للبائع مآله أن المشتري يأكل مال البائع بالباطل، وقد علم في أصل الشرع أن أكل أموال الناس بالباطل حرام، وكل وسيلة تؤدي إليه حرام كذلك.

وإذا كان لولي الأمر دخل في التسعير، فهو من باب رفع الضرر عن المسلمين إذا رأى شططا، كما جاء في نص الفتوى.

قال الزيلعي: "ولا يسعر السلطان إلا أن يتعدى أرباب الطعام عن القيمة تعديا فاحشا ... فلا ينبغي للإمام أن يتعرض لحقه إلا إذا كان أرباب الطعام يتحكمون على المسلمين، ويتعدون تعديا فاحشا، وعجز السلطان عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير، فلا بأس به بمشورة أهل الرأي والنظر " (6).

أما القول الثاني، فينطلق من الصبغة الوقائية لمبدأ مراعاة المآل عموما وسد الذرائع خصوصا، وذلك من باب تحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، فقد يقصد أهل الحوانيت والأسواق الذين يشترون من الجلاب أمرا يكون نتيجته ما فيه ضرر، والمستند هنا هو أن التسعير فيه رعاية مصلحتين: دفع الضرر عن الناس بمنع تعدي التجار في الأسعار تعديا فاحشا، ورعاية حق الفرد بإعطائه ثمن المثل.

قال الباجي رحمه الله: "ووجهه أي التسعير – ما يجب من النظر في المصالح العامة، والمنع من إغلاء السعر عليهم والإفساد عليهم، وليس يجبر الناس على البيع، وإنما يمنعون بغير السعر الذي يحدده الإمام على حسب ما يرى من المصلحة فيه للبائع والمبتاع، لا يمنع البائع ربحا، ولا يسوغ له ما يضر الناس (7) ".

والتفريق بين الجالب وغيره في التسعير هو ما عليه المالكية، وهو ما نقله ابن رشد الجد في البيان اتفاقا من غير تفصيل، وتعليل هذا التفصيل نجده في كلام للباجي في المنتقى إذ يقول: " وجه ما في كتاب محمد: أن الجالب يسامح ويستدام أمره ليكثر ما يجلبه، مع أن ما يجلبه ليس من أقوات البلد، وهو يدخل الرفق عليهم بما يجلبه، فربما أدى التحجير عليه إلى قطع الميرة، والبائع بالبلد إنما يبيع أقواتهم المختصة بهم، ولا يقدر على العدول عنهم في الأغلب، ولهذا فرقنا بينهما في الحُكرة وقت الضرورة، ووجه ما قاله ابن حبيب: أن هذا بائع في السوق، فلم يكن له أن يحط عن سعره، لأن ذلك مفسد لسعر الناس كأهل البلد، قال: فأما جالب القمح والشعير، فقال ابن حبيب: يبيع كيف شاء، إلا أن لهم في أنفسهم حكم أهل السوق، وإن أرخص بعضهم تركوا إن قل من حط السعر، وإن كثر المرخصون، قيل لمن بقي: إما أن تبيع كبيعهم وإما أن ترفع" (8).

فنفهم بهذا أن فقهاء المالكية باختلاف أنظارهم راعوا في ذلك أكثر من مآل:

- الأول: السماح للجالب بالبيع دون تسعير عليه، لما في ذلك من توسيع على الناس، والتسعير على الجالب فيه تضييق عليهم لأن ذلك يفضي إلى قطع الميرة عنهم.

- الثاني: مراعاة حق الجالب لأن التسعير عليه فيه حرج، ومبدأ الشريعة وأسها رفع الحرج.

- الثالث: مراعاة المصلحة العامة بالتسعير على البائع في السوق منعا للمآل الفاسد، حتى ولو لم يقصده البائع، وهذا منع للتعسف في استعمال الحق الذي تؤدي ممارسته إلى الإضرار بالعامة، وهو الأرجح على اعتبار أنه إذا تعارضت مصلحتان رجحت أعظمهما، والمصلحة العامة هنا أرجح، فإنه يدفع الضرر العام ولو بإثبات الضرر الخاص.

وخلاصة هذا كله يجملها الشاطبي رحمه الله في كلمات يسيرة فيقول: " إن أمكن انجبار الاضرار ورفعه جملة فاعتبار الضرر العام أولى، فيمنع الجالب أو الدافع مما هم به، لأن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة ... " (9)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير