تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

[سياسة الفتوى]

ـ[سعد الحضيري]ــــــــ[30 - 06 - 10, 04:21 ص]ـ

سياسة الفتوى•

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وصلى الله على رسوله محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد فإن منصب الإفتاء من أخطر المناصب وأعظمها وأشرفها، لأنه توقيع عن الله في بيان شرعه وقول على دينه في بيان حلاله وحرامه ومطلوبه وممنوعه، بل إن ذلك هو المنصب العلى الذي ردَّ الله أمره إليه فقال سبحانه: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ) الآية (النساء:176)، وأذن الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقوم فيه بياناً لما أوحى إليه وعصمه من الزلل فيه والخلل، قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ) (الأنبياء:45) وقال: (وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً) (الأحزاب: 46) وعظَّم اللهُ شأنَ القولِ عليه بلا علم أو بافتراء بأشد أنواع التعظيم والتخويف فقال: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ) (النحل: 116) وقال في حق أكرم الخلق عليه محمد صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ* لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) الآيات (الحاقة:44و45)، وفي هذا أكبر تهديد للقائلين عليه بغير الحق، والعلماء هم ورثة الأنبياء والقائمون مقامهم في البيان والدعوة فيلزمهم أن يتبعوهم في التحري والدقة والحذر من القول على الله بلا علم خوفاً من مغبة ذلك وسوء عاقبته، ولابد للمتصدر لإفتاء الناس (وما أكثرهم في هذا الزمان!) أن يعرف مدخله ومخرجه من العلم النافع بالكتاب والسنة وما خُرِّجَ عليهما ويعلم مقاصد الشريعة وأن يكون عالماً بمواقع الفتوى وأهل زمانه وأن يسوسهم بما يصلحهم فإنه مكلف بذلك، فلا يكفي أن يعلم الأحكام ثم ينزلها كيف يشاء فإن للفتوى سياسة كسياسة الدول بل هي أكبر لأنها تتعلق بمصالح العباد الدينية والدنيوية وقد بين ذلك ربنا عزوجل ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وسطر ذلك علماؤنا في كتبهم الأصولية والفروعية، كل ذلك رعاية لهذا المبدأ العظيم، فلا يجوز لأحد أن يفتي بمجرد معلومات يعلمها لا يعلم تنزيلها الصحيح حالاً ومآلاً ومكاناً وزماناً لأن المقصود من الفتوى إصلاح أديان الناس ودنياهم وحفظ مصالحهم الدينية والدنيوية، ولا يحل فيها التسرع فإن الظنَّ خوَّانٌّ، ولا يجعل همه أن يفتي ويجيب السائل، بل ليكن همه أن ينجي نفسه، مما دخل فيه من هذه الورطة العظيمة وهي التوقيع عن الله عز وجل! وقد كثر في هذا الزمان من تصدر لإفتاء الناس عبر الوسائل المختلفة دون تكليف من إمام ولا أهلية علمية بل كثر من يلقي العلوم والفتاوى على عواهنها بلا زمام من دليل ولا رعاية للمصالح الشرعية العامة، وهذا لعمر الله فتنة عظيمة، والله المستعان.

وقد كان أئمة العلم من السلف يتوقون ذلك توقياً شديداً، فهذا الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة على جلالة قدره وسعة علمه حتى قال العلماء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يوشك أن تضرب الناس أباط المطى فى طلب العلم، فلا يجدون عالمًا أعلم من عالم المدينة» قال الترمذي: وقد روى عن سفيان بن عيينة، قال: هو مالك بن أنس. وهذا كلمة اتفاق من أهل العلم في مالك، ومع ذلك روى عنه خلف بن عمر أنه سمع الإمام مالك بن انس يقول: ما أجبت في الفتوى حتى سألت من هو أعلم مني: هل تراني موضعاً لذلك؟ سألت ربيعة، وسألت يحيى بن سعيد، فأمراني بذلك. فقلت: فلو نهوك؟ قال: كنت أنتهي، لا ينبغي للرجل أن يبذل نفسه حتى يسأل من هو أعلم منه. وقال ابن وهب سمعت مالكاً يقول: اعلم أنه فساد عظيم أن يتكلم الإنسان بكل ما يسمع. وعن مالك قال: جُنَّةُ العالم: لا أدري فإذا أغفلها أصيبت مقاتله، وقال الهيثم بن جميل: سمعت مالكا سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فأجاب في اثنتين وثلاثين منها بلا أدري، وعن خالد بن خداش، قال: قدمت على مالك بأربعين مسألة، فما أجابني منها إلا في خمس مسائل. وقال ابن عبد البر: صح عن أبي الدرداء أنَّ لا أدري نصف العلم.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير