ولكن إذا اجتهد فأفتى بما فهم من الكتاب والسنة فله حالتان: إما أن يكون أصاب فله أجران، وإما أن يكون أخطأ فله أجرٌ واحد، لكن هذا إنما هو -أي الأجران إذا أصاب، والأجر الواحد إذا أخطأ- إنما هو للذي يفتي اعتماداً على الكتاب والسنة، أما الذي يقلد -والتقليد جهلٌ باتفاق العلماء- ولا يتبصر في الفتوى، فهذا ليس له أجر، ولا حتى أجر واحد، بل عليه وزر؛ لأنه أفتى بغير ثبتٍ، وبغير بينة وحجة، فحصيلة هذا الحديث هو: وجوب رجوع العالم في كل ما يفتي به إلى الكتاب والسنة.) أنتهى
2 - وإن قال له: قال فلان كذا وهو جوابي
وكان المجتهد الأول مخطئاً فعلى من يقع إثم هذا السائل، ثم من أين تبين لهذا المجيب أن قول هذا العالم هو الحق (ألا يقولوا على الله إلا الحق) وهي مسألة من مسائل النزاع ثم هو بعد قاصر عن الترجيح والتحرير. ولم يسقط النبي - صلى الله عليه وسلم - الاجتهاد عن الحاكم في الحالين حال الإصابة وحال الخطأ ورتب الأجر وسقوط الوزر عليه لكونه عالماً أفرغ وسعه في طلب الحق فقد كلفنا الله بطلب الحق وإفراغ الوسع في ذلك ولم يكلفنا إصابته
وهل يختلف الحكم في ذلك من قوله (جوابك كذا) عن قوله (قال فلان: كذا وهو جواب)
ففي الحالتين أجاب وفي الحالتين ترتب على الجواب عمل وفي الحالتين تكلم بلا علم ولا تثبت.
ثم إن أرتقت بهذا الطالب الحال فعرف الخلاف بين العلماء وهو قاصر عن الترجيح فعرف الخلاف بين العلماء في المسائل فإن جاء سائل يسأله فقال: ما حكم كذا؟ وهو يعرف فيها قولين - ولا شك أحدهما صواب والآخر خطأ بخلاف التنوع -وهو هنا أعلم منه بداية فإن أجاب بأحد القولين وتبنى أحدهما يكون صدر عن غير تثبت كذلك وإن قال قال فلان كذا وقال فلان كذا طلب منه السائل الترجيح وإن قال لا أدري بأي القولين بأخذ السائل إما الأحوط أو ما يوافق هواه.
فحاله هنا أعلم فإن منعناه من القول لأنه تردد بين حق وباطل فيلزمه السكوت كنا اجزنا له بداية وهو أجهل أن يجيب فما علم علما إضافيا منعناه وهذا من العجب!
قال الإمام الشوكاني -رحمه الله -:
فيا أيها القاضي المقلد أخبرنا أي القضاة الثلاثة أنت الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة فالقاضيان اللذان في النار قاض قضى بغير الحق وقاض قضى بالحق وهو لا يعلم أنه الحق والذي في الجنة قاض قضى بالحق وهو يعلم أنه الحق فبالله عليك هل قضيت بالحق وأنت تعلم أنه الحق إن قلت نعم فأنت وسائر أهل العلم يشهدون بأنك كاذب لأنك معترف بأنك لا تعلم بالحق وكذلك سائر الناس يحكمون عليك بهذا من غير فرق بين مجتهد ومقلد وإن قلت إنك قضيت بما قاله إمامك ولا تدري أحق هو أم باطل كما هو شأن كل مقلد على وجه الأرض فأنت بإقرارك هذا أحد رجلين إما قضيت بالحق وأنت لا تعلم بأنه الحق أو قضيت بغير الحق لأن ذلك الحكم الذي حكمت به هو لا يخلو عن أحد الأمرين إما أن يكون حقا وإما أن يكون غير حق وعلى كلا التقديرين فأنت من قضاة النار بنص المختار وهذا ما أظن بتردد فيه أحد من أهل الفهم بأمرين أحدهما أن النبي صلى الله عليه وسلم
قد جعل القضاة ثلاثة وبين صفة كل واحد منهم بيانا يفهمه المقصر والكامل والعالم والجاهل الثاني أن المقلد لا يدعي أنه يعلم بما هو حق من كلام إمامه ولا بما هو باطل بل يقر على نفسه أنه يقبل قول الغير ولا يطالبه بحجة ويقر على نفسه أنه لا يعقل الحجة إذا جاءته فأفاد هذا أنه حكم بشيء لا يدري ما هو فإن وافق الحق فهو الذي قضى بغير علم وإن لم يوافق فهو الذي قضى بغير الحق وهذان هما القاضيان اللذان في النار فالقاضي المقلد على كلتا حالتيه يتقلب في نار جهنم) أنتهى
وقال: (أما العلماء المجتهدون فهم يعتقدون أنه مبطل في جميع ما يأتي به لأنه من قضاة النار فلا يعرفون لما يصدر عنه من الأحكام رأسا ولا يعتقدون أنه قاض لأنه قد قام الدليل عندهم على أن القاضي لا يكون إلا مجتهدا وأن المقلد وإن بلغ في الورع والعفاف والتقوى إلى مبلغ الأولياء فهو عندهم بنفس استمراره على القضاء مصر على المعصية وينزلون جميع ما يصدر عنه منزلة ما يصدر عن العامة الذين ليسوا بقضاة ولا مفتين فجميع مسجلاته التي يكتب عليها اسمه ويحلل فيها الحرام ويحرم الحلال باطلة لا تعد شيئا بل لو كانت موافقة للصواب لم تعد عندهم شيئا لأنها صادرة من قاض حكم بالحق وهو لا يعلم به فهو من أهل النار في الآخرة) أنتهى
وقال - رحمه الله -: (المفتي المقلد لا يحل له أن يفتي من يسأله عن حكم الله أو حكم رسوله أو عن الحق أو عن الثابت في الشريعة أو عما يحل له أو يحرم عليه لأن المقلد لا يدري بواحد من هذه الأمور على التحقيق بل لا يعرفها إلا المجتهد
هكذا إن سأله السائل سؤالا مطلقا من غير أن يقيده بأحد الأمور المتقدمة فلا يحل للمقلد أن يفتيه بشيء من ذلك لأن السؤال المطلق ينصرف إلى الشريعة المطهرة لا إلى قول قائل أو رأي صاحب رأي وأما إذا سأله سائل عن قول فلان أو رأي فلان أو ما ذكره فلان فلا بأس بأن ينقل له المقلد ذلك ويرويه له إن كان عارفا بمذهب العالم الذي وقع السؤال عن قوله أو رأيه أو مذهبه لأنه سئل عن أمر يمكنه نقله وليس ذلك من التقول على الله بما لم يقل ولا من التعريف بالكتاب والسنة) أنتهى
¥