- ويذهب البعض مذهبا أكثر موضوعية في تصوره لهذا المثل الأعلى، فلا يراه محدودا في كائن بعينه، وإنما يراه في (ظاهرة) – أو (كائن معبر عن ظاهرة) – إن صح التعبير مثل:
• غراب البين: وذلك " لأنه إذا بان الحي للنجعة انتاب منازلهم يلتمس فيها شيئا يأكله فتشاءموا به، لأنه يعتريها إلا إذا بانوا " ()
ب – وإذا كان المبرر في اختلاف الناس حول (الشؤم) – وهو معنى – واسعا، فإن المبرر في الحسيات أضيق، ومع ذلك فالتعددية موجودة في أمثال الحسيات؛ كالبصر، والخفة، والرقة (الحسية) والسرعة، وقوة الشم، والصغر، والضيق، والطول …. الخ.
فحسب جمع العسكري نلاحظ أن:
- البصر: له سبعة أمثال مختلفة ()
- الخفة: لها ستة أمثال مختلفة (غير خفة الرأس أو الحلم) ()
- الطول: له عشرة أمثال مختلفة (غير طول الصحبة أو الذماء) ()
وسنتوقف عند الطول قليلا، لنحاول استكشاف سبب الاختلاف؛ فتلاحظ أن هذه الأمثال اختلفت باختلاف الأساس الذي بني عليه كل منهم (مثله الأعلى) في الطول:
- فالبعض نظر إليه نظرة حسية بحتة؛ مثل الذي قال: (أطول من السكاك) () وهو الهواء بين السماء و الأرض، وليس يعرف العربي شيئا حسيا أطول من هذا.
وإذا كان هؤلاء صدروا في نظرتهم الحسية صدورا (مكانيا) فالذين اعتبروا (الدهر) مقياسا للطول – صدروا عن صدور (زماني)، فقالوا: (أطول من الدهر) ()
- بينما رأى آخرون – حين قدموا (المقياس النفسي) – إن صح التعبير – أن (يوم الفراق) أطول. فقالوا:
(أطول من يوم الفراق) ()
• والذي أهمهم – في نظرتهم النفسية – طعامهم وشرابهم، قالوا:
(أطول من السنة الجدبة) ()
والدراسة المتأنية لهذه الأمثال، وغيرها، تحتاج إلى عناية خاصة، ليس من شأن هذه المساحة تغطيتها، وإنما أردت أن ألفت إلى شيء من أهميتها عسى أن تكون موضع دراسة مستقبلة إن شاء الله تعالى.
المثل والتركيب اللغوي
ولست أقصد بالتركيب اللغوي أن نقتحم دراسة (فونيمية) أو (بنيوية) على النحو الذي يصنعه المعمليون، ودعاة البنية التحتية والدلالية، وإنما أقصد ما هو أيسر من ذلك، وهو لمس عناصر الإيجاز والدلالة في المثل العربي.
وقد نجد أمثلة كثيرة على هذه الناحية، كما قد نفيد - بعض الفائدة – من الطرح الجيد الذي طرحه د. عابدين في كتابه عن (الأمثال في النثر العربي القديم) لكننا لا نطمح في هذه العجالة إلى درك المنتهى من البحث، فحسبنا أن ندلل على كل جزئية بارزة بمثل.
1 - التركيب الشرطي:
تكثر الأمثال التي تتخذ شكل الشرط، وما يشبهه، وهو أمر طبيعي للقول الذي يكتب له الخلود، فهو يتسم بالعمومية الملائمة لهذا الخلود، على أنه يلفتنا أن أمثال الشرط يغلب عليها الإيجاز والدلالة؛ مثل:
(إذا عز أخوك فهن)
(من حقر حرم)
(من عز بز)
(سمن كلبك يأكلك)
2 - استخدام (رب):
وهو طريق في التعبير مناسب أيضا لعموم الداخلين في الحكم أو القيمة التي يطرحها المثل، ولو توقفنا مع الأمثال التي استخدمت فيها (رب)، فستلاحظ أن هذا التركيب في المثل يوحي بأحد المعاني الآتية:
أ – تحذير من أمر قد لا يدرك عواقبه، مثل:
"رب أكلة تمنع أكلات"
قال العسكري: " يضرب مثلا للخصلة من الخير تنال على وجه الصواب، فتكون سببا في منع أمثالها " … وقال ابن العلاف:
كم أكلة خالطت حشا شره فأخرجت روحه من الجسد ()
ب – تنبيه إلى حقائق تغيب عن بعض الأذهان لدقتها؛ مثل:
" رب أخ لك لم تلده أمك " ()
و" رب سامع بخبري لم يسمع عذري "
ت ـ توجيه تربوي إلى محاسن أشياء لا يدرك محاسنها غير المتأمل؛ مثل:
" رب عجلة تهب ريثا " ()
و" رب قول أنفذ من صول " ()
ث – تعجب من أمور عجيبة أو منكرة؛ مثل:
" رب ساع لقاعد " ()
أو " رب فروقه يدعى ليثا " ()
والفروقة: الشديد الخوف
3 - استخدام (أفعل)
وقد مر بنا أمثلة مركزة في دلالاته.
4 - المثل العربي والمجاز:
المجاز شيء أصيل في اللغات، والأمثال خاصة مستودع هذا المجاز، والناظر في أمثال (العهد القديم) يرى أنها شخصت كثيرا من الموجودات بصورة فذة، نقرأ في سفر أشعيا: ()
" هل تفتخر الفاس على القاطع بها؟، أو يتكبر المنشار على مردده ".
¥