وهذا التشخيص تجده في أمثال العربية بارزا، ولكنه أقرب إلأى تشخيص الأحوال، وهو أمر فلعل الذي يسمع المثل القاتل:
" عنز استتيست "
وهو يصور – بإيجاز شديد – حال الرجل " المهين يصير نبيلا – أي كان عنزا فصار تيسا، ومثل قول الشاعر:
أعجبت أن ركب ابن حزم بغلة فركوبه ظهر المنابر أعجب
جعل ابن حزم حاجبين لبابه سبحان من جعل ابن حزم يحجب " ()
وانظر أيضا إلى ما يثيره المثل:
" بين حاذف وقاذف "
من تصوير لهيئة رجل منحوس قلق، لا يخرج من هم إلا إلى مثله، تتعاقبه ألوان الهموم، وصروف البلايا، قال العسكري:
" القاذف بالحجر، والحاذف بالعصا " ()
وقد يتعجب المثل من حالة فكرية عوجاء؛ كحال الذي " يقيس الملائكة إلى الحدادين" ()
والحدادون: السجانون
وانظر إلى الهوة بين الكبار والصغار، وبين أهل الخير وأهل الشر 0
وثمة أمثال تقدر على تصوير الواقد تصويرا (صوتيا) – إن صح التعبير –: لأنه لا يعتمد على إدراك المعنى الجزئي بقدر اعتماده على سماع لفظ المثل؛ واسمع مثلا:
" بعد الهياط والمياط " ()
" وقع حيص بيص " ()
وأظن أنه سيغنيك سماعه عن فهم معناه.
5 - المثل بين اللغويين والنحاة:
إيجاز المثل وبعد مرماه، وصعوبة التعرف على مورده أحيانا، وعلى لغة قائله أحيانا أخرى، كل ذلك جعله عرضة لأهل النحو واللغة، وثروة أعانت على تشقيق الكثير من القواعد، ووضع الكثير من الاستثناءات من القواعد العامة؛ وإليك بعض الأمثلة:
أ – (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه) ()
شاهد عندهم على الإسناد إلى الفعل معروف، والقاعدة النحوية مؤداها – اضطرادا – أن المسند إليه يشترط أن يكون اسما، وجعله شارح الكافية شاهدا على جواز إضمار (أن) المصدرية بغير عمل كثيرا () 0
وقد تكلم ابن هشام في شرحه لشذور الذهب على اختلاف الرواية، والتقدير فيه بشيء من الإفاضة. ()
ومثله في هذا الموضوع:
" خذ اللص قبل يأخذك " ()
فقد استشهد به ابن مالك على جواز إضمار (أن) ()، وتابعه السيوطي في إعراب المسند ()، وإن كان الأبشيهي قد جعله من أمثال العامة والمولدين منفرداً بذلك، دون أن يبرره ().
ب – (عسى الغوير أبؤسا) ()
فيكاد النحاة يتفقون على أن (أبؤسا) هي خبر لكان المحذوفة، والتقدير: ( .. أن يكون أبؤسا)، وهو صريح قول المبرد (). وقال سيبويه: " جعلوا عسى بمنزلة كان " () أما السهيلي – وهو نحوي دقيق الفهم – فهو يذهب مذهبا مؤداه أنهم جعلوا عسى بمنزلة (صار)، وأصل هذا في رأيه أن (الزباء) – مصدر المثل – " حين تكلمت بعسى، ثم أدركها اليقين؛ فقالت: " عسى الغوير " – وهي متوقعة شرا، ثم غلب على ظنها الشر، فختمت الكلام بحكم ما غلب على ظنها، لا بحكم (عسى)، لأن (عسى) لا يكون خبرها اسما غير حدث، فكأنها قالت: صار الغوير أبؤسا) () " 0 وهو هنا يدخل المثل في دائرة الإضراب – كما هو مفهوم من سياق الموضوع عموما - ويؤكد هذا المفهوم الذي ذهب إليه السهيلي نحوي آخر هو ابن الطراوة، إذ يقول بعد أن ذكر مثلما قال السهيلي: " … وهذا التحول في المقام الواحد من حال إلى حال في كلام العرب واستعمال العامة أكثر من أن يخص وأعم وأشهر من أن يشهر و ينمي " ()
وكثيرا ما وقف النحاة أمام الشواهد النثرية من المثل خاصة، ليثري بحثهم النحوي بالمفيد، بل والغريب أحيانا على نحو ما مر بنا في كلام السهيلي وابن الطراوة السابق، ولعل وجود نحو خمسين مثلا في كتاب سيبويه – وهو أقدم كتاب وصل إلينا في النحو - يدل على مدى اهتمام النحاة بهذه الظاهرة.
أما اللغويون فقد وجدوا في المثل ضالتهم المنشودة، إذ يتسم المثل في كثير من الأحيان بما يمكن أن يسمي (جاهلية الألفاظ)، بل ربما ظهرت فيه عناصر خاصة بقبائل بعينها، من حيث سمات اللهجة، صوتيا، وصرفيا، ولغويا. وحينما نعلم أن حرفا واحدا من حروف معجم (العباب) للصنعاني – وهو حرف الفاء وحده قد احتوى - حسب فهرسة الشيخ محمد حسن آل ياسين – على أكثر من سبعين شاهدا، فهذا دليل على مدى اعتناء هؤلاء اللغويين بالمثل شاهدا لغويا ()، فمن أمثلة ذلك استشهادهم بالمثل:
آبل من حنيف الحناتم "
على أنه جاء اسم التفصيل من غير فعل أصلا، قال الرضي في شرح الكافيه:
¥