تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

3 - أراد الباحث أن يفتح بابا للموضوعية في بحثه، فصدرت عنه مغالطات أقل ما تدل عليه أن الرجل بعيد عن محل اختصاصه، بوقوعه في إصدار أحكام ليس لها حظ من الصدق إلا حظ الوهم من الحقيقة، يظهر ذلك في قوله: " .. كما أن الألفية التي ظهرت مغايرة للتأليف المتعارف عليه لا شك أنها تحارب! وهذا شيء طبيعي! لأن كل جديد يحارب، وكل جديد بدعة، والبدعة ضلالة عند بعضهم! .. " وأخطاء الباحث هنا تظهر من وجوه أهمها:

ا- أن ابن مالك مسبوق بهذا الأسلوب من التأليف، وليس أبا بكرته! إذ أسلوب نظم العلوم عامة، ونظم النحو خاصة، قديم عند العرب –وإن لم يسبقوا إليه- وليس من الضرورة أن تكون المنظومة ألفية أو دون هذا العدد أو فوقه.

ومن أوائل من يسر الرجز المزدوج في القص أبو سهل الفضل ابن نوبخت، الكاتب الحكيم- فقد نظم كتاب "كليلة ودمنة" وأهداها إلى يحيى البرمكي- وكذلك الشاعر العباسي أبان بن عبد الحميد اللاحقي الرقاشي، نظمها نظما رائقا، ويبدو أنه لم ينظمها عن أصل فارسي بل اعتمد ترجمة أبي محمد عبد الله بن المقفع، التي ترجمها بأسلوب عال وبيان مشرق، مع تصرف في بعض سياقاتها، وقد افتتحها أبان بقوله:

هذا كتاب أدب ومحنه وهو الذي يدعى كليله دمنه

فيه احتيالات وفيه رشد وهو كتاب وضعته الهند

ولم يكتف أبان اللاحقي في نظمه بهذا، بل له أرجوزة تجاوزت الآلاف من الأبيات سماها "ذات الحلل" يذكر صاحب الأغاني أنه "ذكر فيها مبدأ الخلق، وأمر الدنيا، وشيئا من المنطق .. ".

وابن مالك مسبوق في ميدان النظم النحوي، فقد ذكر في مقدمة الخلاصة أنه عارض بها، ألفية الإمام ابن معطي الحنفي، وإن حكم لنفسه بالتفوق، وهذا منه ثقة عالم لا غرور متعالم! فمن تضعضعت ثقته في نفسه فأولى له ألا يلتمسها لدى الآخرين! فإن الآخر أميل إلى كتم الفضائل منه إلى إفشائها، وإن الإنسان -مذ كان- جبل على خصلتي الحسد والجحود فعليهما مدار حركته في الدنيا، خاصة إذا اشتدت حميا العصبية، واستبد سعارها بانكماش الروح الدينية، وطغيان الغريزة.

على أن ابن معطي لم يكن أول فاتح لباب النظم النحوي، بل سبقه إلى ذلك الإمام اليشكري، وهو من علماء القرن الرابع، في النصف الأول منه، وله باع طويل في النظم، وقع ابن مالك دونه في السلاسة، وإن تفوق عليه في دقة العبارة، وكثافة المضامين، ومن ذلك قوله:

وَفِي حُرُوفِ الْجَحْدِ مِثْلُ لَمْ يَزَلْ تَقْدِيمُنَا أَخْبَارَهَا فِيهِ خَطَلْ

فَـ"قُوَّمًا مَازَالَتِ الأحياءُ أَحَالَهُ البَصْرِيُّ والفَرَّاءُ

وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْكُوفَه فِيهِ لَهُمْ إِجَازَةٌ مَعروفَه!

ومما ورد في نظمه:

وَمَا جَوَادَكَ الغلامُ راكبُ فَليسَ فيه للجوادِ ناصبُ

إِلاَّ ابنُ كَيسَانَ من المذَاهبِ فَإِنَّه أجاز نَصبَ الرَّاكِبِ

وقد ورد البيتان في بغية السيوطي وفيهما بعض التصحيف يخل بالمعنى، ولم ينتبه المحقق الفاضل أبو الفضل إبراهيم، فقد صحفت "جوادك" إلى "جوازك" وضبطا بسكون القافية، والإطلاق أدق.

على أنني وجدت الإمام اليشكري يأخذ على سابقيه في هذا المجال الإطناب حينا، والإيجاز حينا آخر، ويقول: "إنه ذهب مذهبا الوسط فيما بين ذلك", ومنظومة اليشكري تبلغ ثلاثة آلاف بيت إلا قليلا، وهو يراها وسطا بين منظومات سابقيه في اللغة والنحو، وهذا دليل على أن النظم في اللغة والنحو أقدم بكثير مما يتصور المتسرعون من أشباه الباحثين عندنا ..

ب- يدّعي الباحث أن الألفية حوربت في عصرها، ومازالت تحارب، لأنها تقوم على منهج في التأليف غير متواضع عليه، ولا متعارف لدى النحاة، وكل جديد ينهض أنصار القديم، ويخفُّون لإعلان الحرب عليه، قتلا في المهد، وانتصارا للقديم عليه، وهذه المعركة لم تقع أحداثها إلا في وهم الباحث، فمنذ صدرت الألفية وأذاعها صاحبها بين طلاب العلم والعربية سارت سيرورة الشمس، وتقبلها معاصروه بقبول حسن، وكان لها من الإقبال عليها، والقبول لها، والعناية بها ما لم يكن لألفية سابقه الذي يعترف له ابن مالك بفضل السبق:

وَهو بسبق حائز تفضيلا مستوجب ثنائي الجميلا

وليس من الطبيعي –على زعم الباحث- أن كل جديد يحارب، فإنما يحارب أهل العلم والمعرفة، وذوو العقول الركينة الجديد غير المؤسس، الذي يراد به الهدم، ولا ينفع معه بناء، الجديد الذي يحمل بين ثناياه حماقة مدعيه، الجديد الذي لا يتمثله صاحبه إلا تخيلا، ولا يصفه إلا توهما، الاضطراب لحمته وسداه، والغموض غايته، والانعكاف على مصطلحات مخترقات هداه!!

الجديد الذي ليس له من الجدة إلا الادعاء، ولا من الابتكار إلا المكابرة .. ولا من الحجج إلا خواء يتوارى وراء قيم العصر يستر بها عواره، وعلى تهافت ألوان من الجديد الذي ما كان ليكون لو لم يركب الليل .. ويصلب المخالفين على خشبة الويل!! فإن العقلاء لم يصفوه في دائرة البدعة في حالتي قبحها أو حسنها-فضلا عن أن يصفوه بالضلالة- فقول الباحث: "والبدعة ضلالة عند بعضهم .. " تكلف منه، وولوج من غير بابه –والعبارة لا تخلو من غمز ولمز!! وسخرية، وإن ثقل ظلها، وبرد دمها!! وإلا فإن البدعة في الدين ضلالة .. ورغمت أنوف المتنطعين!! –كيف يشفق الباحث على البدعة المسكينة!! ويدافع عنها ويراها-كذبا لها!! صلاحا وهدى إلا عند بعضهم!! فهي ضلالة، فما على أولي الأمر إلا أن يشنقوا هؤلاء "البعض" الذين يضللون البدعة أو يستأصلوهم! حتى تستوي "الكاثوليكية" العلمانية على سوقها، من دون منازع!!

إن الخلط بين مفهوم "البدعة في الدين" الني جاء النص محذرا منها، ناهيا عنها، وبين الابتداع في الفن والفكر فينا لا يصادم الثوابت خلط أراه مقصودا،، وهو صادر عن قراءة في الفكر، ونظرة إلى الدين غير بريئة، والغرض منها رمي أهل الإسلام بضيق الصدر بكل جديد، وبالتحجر عند كل قديم. إن الإسلام ثورة على التقليد فكيف يكون أتباعه مقلدين؟!! والدين الذي جعل من مصادر التشريع عنده العقل كيف يلغي العقل، أو يعطل الملكات فيما دون ذلك من وجوه النشاط الإنساني ومنها الأدب ومدارسه الفكرية ومذاهبه، والدرس النحوي ومناهجه؟؟

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير