تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

المسلمة، وحمل لواء الدعوة الإسلامية، وتبليغها للعباد تدفعهم لذلك نصوص صريحة من القرآن الكريم، وترغبهم في ذلك، كقوله ـ تعالى ـ:

{الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ} [التوبة: 20]، وقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، وقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} [النساء: 95].

ومن أقواله -صلى الله عليه وسلم -: «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق» (29). وقوله -صلى الله عليه وسلم -: «المجاهد في سبيل الله مضمون على الله إما إلى مغفرته ورحمته، وإما أن يرجعه بأجر وغنيمة، ومثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم الذي لا يفتر حتى يرجع» (30)؛ فهذه النصوص الواضحة الصريحة من الكتاب والسنة كانت هي الدافع الحقيقي لمشاركة هؤلاء الرجال في هذه الحملات الجهادية، إضافة إلى حماسهم لأجل تبليغ الدعوة الإسلامية، إلا أن كثيراً من المؤرخين المحدثين، الذين كتبوا عن تاريخ الهجرات العربية إلى بلاد النوبة، قد أغفلوا هذا الدافع ضمن ما ذكروا من دوافع للهجرة، على الرغم من أنه هو الدافع الرئيس لها.

ثانياً: الدوافع السياسية:

وهذه تختلف وتتباين بحسب الأوضاع في البلدين مصر والنوبة؛ فمنها دوافع خاصة بتأمين النظام السياسي في مصر وتقوية شوكته؛ حيث عمد عدد من الولاة في مصر إلى جلب قبائل عربية بأسرها إلى مصر لتكون قوة لهم وسنداً يحميهم، ويغطي ظهرهم عند الخطر؛ وقد أشار عدد من المؤرخين إلى أن عبيد الله بن الحبحاب حين تولى مصر من قِبَل هشام بن عبد الملك سنة 109 هـ أرسل يستأذنه في قدوم قبيلة قيس فأذن له، فقدم عليه نحو مائة من أهل بيت هوازن، ومائة من أهل بيت بني عامر، ومائة من أهل بيت بني سليم، فتوالدوا، وعندما تولى مصر الحوارثة بن سهيل الباهلي في خلافة مروان بن محمد أقبلت إليه قيس، وهي يومئذ ثلاثة آلاف بيت (31)، وقد شاركت أعداد كبيرة من هذه القبائل في الحملات التي أرسلت لبلاد النوبة؛ فاستقرت أعداد كبيرة منهم هناك.

ومن الدوافع السياسية كذلك أن النوبة ظلت ملجأً لكثير من الهاربين من مصر، أو من الجزيرة العربية بسبب الثورات، وتغير نظام الحكم، ويقدم هؤلاء القادة الهاربين عادة في أعداد ضخمة وكبيرة من أتباعهم وأهلهم وعبيدهم، وحوادث التاريخ تبين أنه حين اجتاحت قوات العباسيين الولايات الإسلامية هرب آخر الخلفاء الأمويين إلى مصر؛ حيث قُتل هناك، ثم هرب أبناء عبيد الله جنوباً إلى النوبة مصحوبين بعدد من الأقارب، والأتباع البالغ عددهم نحو 400 شخص، واستجار الأمويون بملك النوبة آملين أن يبقيهم في بلاده؛ لكن الملك النوبي رفض ذلك، وطلب منهم الرحيل، فتوجهوا شرقاً مارّين بأرض البجة إلى ميناء باضع.

وتعرضوا للجوع والعطش والتعب؛ فهلك عدد منهم من بينهم عبيد الله بن مروان، ومضى أخوه إلى ميناء باضع على ساحل البحر الأحمر؛ حيث عبر إلى جدة ومنها سار إلى مكة المكرمة فقبض عليه، وأرسل إلى بغداد؛ حيث بقى سجيناً حتى أيام الخليفة هارون الرشيد الذي أمر بإخراجه بعد أن أصبح كهلاً ضريراً (32)؛ هذا ولا يستبعد أن يكون رجال البجة باتفاق مع النوبيين قد غدروا بهؤلاء الأمويين تقرباً للعباسيين؛ حيث كشفت الحفريات الأثرية الحديثة عن قبور هؤلاء الأمويين الفارّين على طول الطريق الذي سلكوه من النوبة إلى ميناء باضع البجاوي (33)؛ ويبدو أن بعض من نجا من هؤلاء الأمويين قد استقر على الساحل السوداني للبحر الأحمر قرب باضع؛ حيث اختلطوا بالسكان المحليين، وتزوجوا منهم، وأصبح لهم شأن كبير تبعاً لأصلهم القرشي، وقد كان لبقاء هؤلاء الأمويين في تلك المنطقة أثر في ادعاء بعض الأسر السودانية بأنها تنحدر من أصل أموي، ومن الأمثلة على ذلك أسرة الفونج (34) المشهورة، إضافة لدور من استقر من تلك القبائل في نشر دعوة الإسلام بين سكان البلاد، وظلت بلاد النوبة تمثّل دائماً ملجأً للسياسيين والأمراء الفارّين من مصر، يلجؤون إليها لترتيب أمورهم وصفوفهم

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير