أبعد الحدود لا يدرون عما يدور حولهم في جنبات العالم شيئا ً. أما أهل الحضر في مكة و المدينة جدة و الطائف فلم يشاركوا في هذه الثورة ولم يسع قائدها لاستمالتهم أساسا ً.
لقد نجحت هذه الثورة في سوق الجيوش العثمانية نحوها مما أحدث أثرا ً سلبيا ً في إدارة هذه الجيوش، و كان هذا عين ما يهدفه الإنجليز، و كانت النتيجة في النهاية وخيمة؛ فكما كانت ثورة اليمن سببا ً في خسارة الدولة العثمانية حرب البلقان وفقدانها إياه، كانت الثورة العربية سببا ً في خسارة الدولة حرب فلسطين فخرجت بلاد الشام بأكملها من ربقة الحكم العثماني.
كانت مكة في البداية:
تولى " فخر الدين باشا" منصب " محافظ المدينة المنورة " قبل بداية عصيان الشريف حسين بفترة وجيزة حيث أرسله " جمال باشا " قائد الجيش الرابع إلى المدينة في 28 مايو 1916م قريبا ً من وصول إشعار الشريف حسين للآستانة خطيا ً ببدء ثورته، فوصل " فخر الدين باشا " إليها في 31 مايو 1916م، و في بضعة أيام بلغت الرسالة جمال باشا، و في 3 يونيو 1916م استهل الشريف حسين ثورته بتخريب الخط الحديدي الحجازي و خطوط التلغراف بالقرب من المدينة المنورة ثم هاجم المخافر فيها ليلتي 5 و 6 يونيو و لكن الإجراءات الاحترازية التي اتخذها " فخر الدين باشا" نجحت في تشتيت شملهم و إبعادهم عن المدينة.
استهل " فخر الدين باشا" حربه ضد العمليات المناوئة للدولة بهزيمة المتمردين القابعين في المواقع المعروفة ثم تم تعيينه قائدا ً للقوة الحربية الحجازية التي تعززت بوحدات عسكرية جديدة، إلا أن المتمردين شنوا هجوما ً في 9 يونيو بسبب سوء تدبير " غالب باشا" والي مكة أسفر عن دخولهم جدة في 16 يونيو، ثم مكة في 7 يوليو ثم الطائف في 22 سبتمبر فآلت بذلك جميع المراكز الكبيرة التي دافع عنها فخر الدين باشا إلى العصاة المتمردين، و لم تتمكن الحكومة العثمانية من إرسال تعزيزات عسكرية إلى المدينة بسبب شدة وطيس معارك عمليات القنال.
مقاومة باسلة طيلة سنتين و سبع أشهر:
لقد دافع " فخر الدين باشا" عن المدينة المنورة طيلة سنتين و 7 أشهر رغم إمكاناته المحدودة، و أراد في البداية تشكيل خط أمان للمدينة و ضواحيها فطهر من المتمردين كلا ً من " خليج عسر" (1) و " بئر درويش" و " بئر الرحاء" مما أدى إلى تكوين قطاع آمن حول المدينة طوله 100 كم في 29 أغسطس 1916م. و قد رغب " فخر الدين باشا" في أن تمده الحكومة في استانبول بقوات مساندة لكن الحكومة أبلغته بأنها لا تستطيع تلبية رغبته.
حين قررت الحكومة العثمانية إخلاء قسم من المدينة المنورة اقترح " فخر الدين باشا" عليها نقل 30 غرضا ً هي الأمانات النبوية الشريفة إلى الآستانة خوفا ً من تعرض المدينة المنورة لأعمال سلب و نهب فوافقت الحكومة على طلبه شريطة تحمله المسؤولية كاملة لهذا الأمر، فقام الباشا بإرسالها إلى استانبول نظير عمولة خاصة تحت حماية 2000 جندي.
رضخ الأعراب القاطنون في الصحراء الفاصلة بين الحجاز و بلاد الشام، و الذين يعيشون على السلب و النهب لحيل الشريف حسين و أموال الإنجليز بتقوية الدفاعات حول خط سكة الحديد الرابط بين بلاد الشام والمدينة، ثم أمر الجاسوس الشهير " لورنس" بزرع المتفجرات على امتداد الخط الحديدي، و بمرور الأيام صارت المدينة المنورة معزولة في وسط الصحراء عن المحيط الخارجي فتقرر إخلائها فقام الشريف حيدر باشا أمير مكة و أسرته بمغادرتها فتبعه 3 - 4 آلاف شخص من الأهالي.
طالما استمر التوفيق الإلهي و الرضا النبوي و الإرادة السلطانية:
استمر " فخر الدين باشا" بالدفاع عن المدينة المنورة و الطرق الصحراوية رغم قلة قواته، لكن الأعداء حاصروها بعدما استولوا على محطة " المدوّرة"- إحدى محطات الخط الحديدي الحجازي- القريبة من المدينة المنورة، و بدأ الجوع و المرض يغزو الأهالي و العسكر بسبب عدم إمكانية تلقي المساعدات من أي جهة، و لكن فخر الدين باشا لم ييأس من المقاومة بل أنه قبل حصار حصن المدينة أبلغ الحكومة في استانبول ردا ً على طلبهم إخلاء المدينة بالكامل قائلا ً: " لن أنزل العلم الأحمر بيديّ من على حصن المدينة .. و إن كنتم مخليها حقا ً فأرسلوا قائدا ً آخر مكاني" و كان يردد " الدفاع عن المدينة المنورة قائم حتى يحل علينا القضاء الإلهي و الرضا النبوي و
¥