الإرادة السلطانية قرناء الشرف ..
"، و أقسم أن يفدي الأماكن التي يذود عنها ولو طارت روحه في الهواء بدل تسليمها للأعراب و الإنجليز.
و بينما كان فخر الدين باشا و جنوده يحاربون الأعداء من جهة و الجوع من جهة أخرى أسفرت عملية القنال عن كارثة حيث سقطت فلسطين و أصبحت أقرب القوات العثمانية عن المدينة بعيدة مسافة 1300 كم عنها، و في تلك الأثناء انهزمت الدولة العثمانية و وقعت اتفاقية موندروس في 30 أكتوبر 1918م و بموجب المادة 16 توجب على فخر الدين باشا الاستسلام لكنه لم يفعل بل أبى إلا الصمود. كان أهل المدينة على غير علم بهذه الاتفاقية لانقطاع الأخبار عنهم بسبب الحصار، بينما كان الباشا يتابع أحدث التطورات عن طريق اللا سلكي، و قد قامت إحدى الغواصات الإنجليزية في البحر الأحمر بإبلاغه بشروط المعاهدة لكنها لم تتلق منه أي جواب، و قد أرسلت استانبول ضابطا ً كبيرا ً إليه لنفس الغرض لكنه أمر بحبسه.
لم يرضخ " فخر الدين باشا" لمطالب القوات الإنجليزية و العربية التي تحاصر المدينة المنورة بالاستسلام، ثم أرسلت الحكومة العثمانية- تحت ضغط الإنجليز- ناظر العدلية حيدر ملا ّ إلى المدينة و معه رسالة تحمل توقيع السلطان فيها أمر للمقاومين بالاستسلام فلم يذعن " فخر الدين باشا" لهذا الأمر كذلك؛ و أبقى المقاومة قائمة بالرغم من مرض معظم الجنود و نفاد مخزون الذخيرة و الأدوية و الملابس، لكن في النهاية نزل " فخر الدين باشا" على إلحاح ضباطه و أعلن استسلامه في يناير 1919م. و هكذا طويت آخر صفحات الحكم العثماني أو بالأحرى " خدمة العثمانيين" للأراضي المقدسة بعد أن ختمت بنهاية حزينة.
ماذا جرى لأحلام الشريف حسين:
نصّب الشريف حسين نفسه أميرا ً على مكة بعدما غادر العثمانيون الحجاز، لكن الحظ لم يحالفه بعد ذلك لأنه دفع ثمن إجلائهم على يد عبد العزيز بن سعود؛ فقد سحب بساط الحكم من تحت قدميه لحساب ابنه علي نزولا ً على اقتراحات من حوله، و حينما لم يُجْدِ ذلك اضطر للصراع مع ابن سعود فلم يفلح كذلك ثم لاذ بالفرار إلى قبرص مع ابنه علي حيث مكث هناك حتى وفاته و دفن فيها.
أدرك عبدالله بن الحسين المعين من قِبَل أبيه أميرا ً على المدينة أنه لن يصمد في وجه آل سعود فهرب إلى عمّان حيث وضع أسس " المملكة الأردنية" بحماية الإنجليز، و حينما أراد أن يثور عليهم بغية الاستقلال عنهم قتلوه. تولى طلال بن عبدالله بن الحسين مقاليد الحكم في الأردن إلا أنه فقد عرشه بسبب اضطراب عقلي أصابه فلجأ إلى استانبول للعلاج فحل محله ابنه الحسين. و بوفاة الأخير تولى ابنه " عبدالله" مقاليد الأمور إلى الآن كما هو معروف.
أما فيصل الابن الثاني للشريف حسين فكان ينوي أن يصبح ملكا ً على سورية لكن الفرنسيين حالوا بينه و بين ذلك ثم جلبه الإنجليز إلى بغداد و نصّبوه ملكا ً على العراق، و بعدما تلقى الشعب العراقي عدة نكبات سبّبتها الحكومات الملكية قامت جموعه الثائرة بالقضاء على أفراد عائلته جميعا ً.
و بذلك تبخرت أحلام الشريف حسين شيئا ً فشيئا ً و لم يبق من الإمبراطورية الإسلامية التي داعبت خياله سوى دويلة صغيرة هي مملكة الأردن.
إن السبب في عدم استطاعة الشريف حسين السيطرة على العرب يكمن في عدم تمكنه من كسب دعمهم لأن مصدر دعمه الوحيد هم الأعراب الفقراء الذين وقفوا في صفه بفضل ذهب الإنجليز، و لم تشارك في الثورة مكة أو المدينة أو الطائف و زد عليها عمّان و الكرك و السلط و درعا، و لم تتجاوز أعداد الثوّار في دمشق ثلاثين أو أربعين شخصا ً، وفي بغداد لم يرد أحد انتظار الاستقلال. و على الصعيد العثماني كانت الحكومة عاجزة مقيّدة بعد هزيمتها في فلسطين و فرار القائد الألماني ليمان فون ساندرس باشا من الجبهة بثياب النوم! وفي خضمّ هذه الأحداث استطاع آل سعود رغم ضعفهم بسط سيادتهم على الأماكن المقدسة بفضل تقويتهم قبيلتهم داخليا ً.
كيف ودّع العثمانيون المدينة المنوّرة:
لم يكن ينتظرأفراد الجيش التركي المقاوم الذين أصيبوا جميعهم أثناء الحصار حيث أجسادهم امتلأت بآثار الطلقات و الإصابات، و بعضهم فقد ذراعه أو ساقه، سوى التسلل بلا حول و لا قوة بمعاونة بعضهم بعضا ً إلى الحرم الشريف للمرة الأخيرة و الدعاء بخشوع عند الروضة المطهرة. بل إن بعض العرب الذين كايدوا الأتراك بفعل ملايين الإنجليز لم يستطيعوا حبس دموعهم وهم يشاهدون هذا المنظر، كما كان العرب الأهالي الذين صمدوا و تعرضوا معنا لجميع الأخطار، و عانوا من وطأة الجوع أثناء الحصار قد أشاع خروج الجيش التركي من المدينة بينهم أجواء المآتم فبكوا بحرقة و مرارة، و إن القلم ليعجز عن وصف حال من شاهدوا آغاوات الحرم الذين خدموا في رحاب الحرم الشريف على مدى سنين – وأنا واحد من المشاهدين- يعانقون الجنود الأتراك تخنقهم العبرات و تسمع لهم أحر الزفرات.
هكذا افترق العثمانيون عن المدينة، و الواقع أن بعض الجنود الجرحى و المصابين مكثوا في المدينة لتلقي العلاج في مستشفياتنا و لكن الرحيل كان بالنسبة لهم واقعا ً حزينا ً جعلهم يعلمون أنهم مغادرون بلا عودة عاجلا ً أم آجلا ً.
و بعد رحيلهم لم يكد يبق للأتراك في المدينة سوى أضرحة الشهداء .. الشهداء الذين وهبوا أرواحهم للموت فداء للمدينة المقدسة و الحرم الشريف و هم يذودون عنهما أمام الثوار المتمردين الذين أيقظ " لورنس" في نفوسهم نزعة التمرد و الانقلاب.
¥