والجواب عن هذا الاعتراض:- بأن يقال:- إن تخصيص اتباعهم بأصول الدين دون فروعه لا يصح؛ لأن الاتباع عام ولا مخصص؛ ولأن من اتبعهم في أصول الدين فقط لو كان متبعاً لهم على الإطلاق لكنا متبعين للمؤمنين من أهل الكتاب ولم يكن فرق بين اتباع السابقين من هذه الأمة وغيرها.
ولو أقر المخالف بوجوب اتباعهم في أصول الدين، فلئن يجب اتباعهم في فروعه من باب أولى.
و- أيضاً - فإنه إذا قيل:- فلان يتبع فلاناً. واتبع فلاناً. وأنا متبع فلاناً. ولم يقيد ذلك بقرينة لفظيةٍ ولا حاليةٍ فإنه يقتضي اتباعه في كل الأمور التي يتأتى فيها الاتباع؛ لأن من اتبعه في حال وخالفه في أخرى لم يكن وصفه بأنه متبع أولى من وصفه بأنه مخالف. ولأن الرضوان حكم تعلق باتباعهم؛ فيكون الاتباع سبباً له؛ لأن الحكم المعلق بما هو مشتق يقتضي أن ما منه الاشتقاق سببٌ ([91]). وإذا كان اتباعهم سبباً للرضوان اقتضى الحكم في جميع موارده ولا اختصاص للاتباع بحال دون حال.
الاعتراض الثالث:- لم لا يكون المراد من قوله جل وعلا {بإحسان} أي بالتزام الفرائض واجتناب المحارم.
ويكون المقصود أن السابقين قد وجب لهم الرضوان وإن أساءوا لقوله صلى الله عليه وسلم:- (وما يدريك أن الله قد اطلع على أهل بدر فقال:- اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ([92]).
والجواب عن هذا الاعتراض بأن يقال:- إن قوله تعالى:- {بإحسان} ليس المراد به أن يجتهد وافق أو خالف؛ لأنه إذا خالف لم يتبعهم فضلاً عن أن يكون بإحسان.
ولأن مطلق الاجتهاد ليس فيه اتباع لهم. لكن الاتباع لهم:- اسم يدخل فيه كل من وافقهم في الاعتقاد والقول. فلا بد مع ذلك أن يكون المتبع محسناً بأداء الفرائض واجتناب المحارم لئلا يقع الاغترار بمجرد الموافقة قولاً.
-وأيضاً - فلا بد أن يحسن المتبع لهم القول فيهم - ولا يقدح فيهم اشتراط الله ذلك لعلمه بأن سيكون أقوام ينالون منهم - وهذا مثل قوله تعالى بعد أن ذكر المهاجرين والأنصار {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفرلنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا} [الحشر 10]
الاعتراض الرابع:-لم لا يجوز أن يكون المراد بالثناء على من اتبعهم كلهم. وذلك اتباعهم فيما أجمعوا عليه.
والجواب عن هذا الاعتراض من وجوه:-
الأول:- إن الآية اقتضت الثناء على من اتبع كل واحد منهم.
كما أن قوله:- {والسابقون الأولون ...... والذين اتبعوهم} [التوبة 100] يقتضي حصول الرضوان لكل واحد من السابقين والذين اتبعوهم في قوله:- {رضي الله عنهم ورضوا عنه و أعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم} [التوبة 100]، وكذلك في قوله:- {اتبعوهم}؛ لأنه حكم علق عليهم في هذه الآية فقد تناولهم مجتمعين ومنفردين.
الثاني:- إن الأصل في الأحكام المعلقة بأسماء عامة ثبوتها لكل فردٍ فردٍ من تلك المسميات ([93]). كقوله:- {أقيموا الصلاة} [البقرة 43]
وقوله:- {لقد رضي الله عن المؤمنين} [الفتح 18]
وقوله تعالى:- {اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} [التوبة 119]
الثالث:-إن الأحكام المعلقة على المجموع يؤتى فيها باسم يتناول المجموع دون الأفراد كقوله:- {وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً} [البقرة 143]
وقوله:- {كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس} [آل عمران 110] وقوله:-
{ويتبع غير سبيل المؤمنين} [النساء 115]؛ فإن لفظ الأمة، ولفظ سبيل المؤمنين لا يمكن توزيعه على أفراد الأمة، و أفراد المؤمنين، بخلاف لفظ السابقين:- فإنه يتناول كل فرد من السابقين.
الرابع:- الآية تعم اتباعهم مجتمعين ومنفردين في كل ممكن. فمن اتبع جماعتهم إذا اجتمعوا، واتبع آحادهم فيما وجد عنهم - مما لم يخالفه فيه غيره منهم - فقد صدق عليه أنه اتبع السابقين.
أما من خالف بعض السابقين فلا يصح أن يقال اتبع السابقين؛ لوجود مخالفته لبعضهم لا سيما إذا خالف هذا مرةً وهذا مرةً.
وبهذا يظهر الجواب عن اتباعهم إذا اختلفوا فإن اتباعهم هناك قول بعض تلك الأقوال باجتهاد واستدلال إذ هم مجتمعون على تسوية كل واحد من تلك الأقوال لمن أدى اجتهاده إليه فقد قصد اتباعهم أيضاً.
¥