فهذا دليلٌ واضحٌ أن أبا الزبير كان يدلّس ولا يوضح للناس تدليسه. فلو لم يشك زهير بسماع أبي الزبير فسأله عن ذلك، لما عرفنا أنه لم يسمع من جابر هذا الحديث. المغيرة بن مسلم الخراساني ثقة جيّد الحديث. وليث بن أبي سليم بن زنيم، يُكتَبُ حديثه ويُعتبَر به. قال معاوية بن صالح عن ابن معين: «ضعيف إلا أنه يكتب حديثه». وقال ابن عدي: «له أحاديث صالحة. وقد روى عنه شعبة والثوري. ومع الضعف الذي فيه، يُكتب حديثه». وقال الذهبي في الكاشف (2\ 151): «فيه ضعف يسير من سوء حفظه». فهذا لم يتبين لنا إلا من جمع الطرق.
ثم إن من الأئمة المتقدمين من نص صراحة على رفض حديث أبي الزبير المعنعن عن جابر. فقال عنه الإمام النسائي في السنن الكبرى (1\ 640) بعد أن سرد له حديثين بالعنعنة: «فإذا قال: سمعت جابراً، فهو صحيح. وكان يدلس!». أي إذا لم يقل سمعت فهو غير صحيح لأنه مدلس. مثل الذي كذب مرة فقد أبان عن عورته. فلا نقول نقبل حديثه ما لم نعلم أنه كذب. والجرح مقدم على التعديل. فإن الله قد حفظ لنا هذا الدين. ومن حفظه له أن تصلنا أحكام هذا الدين من طريق صحيح متصل غير منقطع رجاله ثقات غير متهمين. فيطمئن المرء له ولا يرتاب. وإلا فلا نعلم يقيناً أن رسول الله ? قد قال ذلك. ولم يوجب الله علينا اتباع الظن.
فهذا إمامٌ من المتقدمين من كبار أئمة الحديث ومن فقهائهم، قد نص على رد تدليس أبي الزبير. وكان النسائي من أعلم الناس بعلل الحديث وبأحوال الرجال. فإذا لم نقبل بقوله فمن نقبل؟! كيف وقد ثبت ذلك بالدليل القاطع وباعتراف أبي الزبير بتدليسه؟ فإن لم يكن هذا كافياً، فلا نستطيع أن نثبت التدليس على أحد!
قد طولت البحث و كبرته بلا فائدة زائدة فكل ما ذكرته و دندنت حوله هو قصة الليث أما من نقلت عنهم مثل النسائي إنما هم في هذه المسألة تبع لليث.
و الليث لم يقل إن ما لم يصرح فيه ابو الزبير بالسماع فهو ضعيف!! و استنباط من استنبط مثل هذا الامر إنما هو مبني على الضن المحض وليس بمبني على اليقين.
ومن أخطاء كثير من المتكلمين في علم الحديث أنهم يجعلون عنعنة المدلس تدليس وهذا خطأ محض , فالائمة يفرقون بين العنعنة و التدليس , فيقولون دَلَّسَهُ ولا يقولون عَنْعَنَهُ , فعنعنة المقل من هذا التدليس ((أي اسقاط واسطة)) الاصل فيها الصحة و الاتصال , أما عنعنة المكثر فالاصل فيها التدليس , ولا يقول أحد شم رائحة هذا العلم أن كل حديث المكثر ((من هذا التدليس)) قد دلسه لكن لما كان الغالب عليه التدليس أُخد بالكثير و توقف في القليل , لكنهم يحكمون بالأصل و الاحتياط , أما المقل فالغالب على حديثه عدم التدليس فلا يترك الكثير ويعل بالقليل وهذا فيه جناية على السنة و فيه من الهدم الخفي ما الله به عليم , فكما هو معلوم من منهج المحدثين جبال هذا العلم الشريف أنهم لا يتركون حديث الراوي حتى يغلب صوابه على خطأه , قال الوليد بن شجاع سمعت الاشجعي يذكر عن سفيان قال: ((ليس يكاد يفلت من الغلط أحد , إذا كان الغالب على الرجل الحفظ فهو حافظ وإن غلط , و إذا كان الغالب عليه الغلط ترك)) {انظر شرح علل الترمذي ص: 113}.
وقال اسحاق ابن منصور: قلت لأحمد: ((متى يترك حديث الرجل؟)) قال: ((إذا كان الغالب عليه الخطأ)) {نفس المصدر} , فعلم من هذا ((وغيره كثير)) أن الحكم للغالب في هذه المسائل و أن المكثر من هذا التدليس و المقل ليسا سواء , و يبدو لي من كثير ممن يتكلم في هذه المسألة أنهم يخلطون بين المشهور بالشيئ و المكثر منه , فالمشهور بالتدليس لا يعني أنه مكثر منه وهنا يتبين لك ضرر التقليد و العجلة , و كثير ممن تكلم في هذه المسألة يقول في أحاديث المدلسين التي في الصحيحين أنها مما " اطلعا ((أي البخاري و مسلم)) على تصريح ذلك المدلس بالسماع من طريق أخرى لم تبلغنا " وهذا بعيد جدا وبينه و بين الصواب مفاوز ولا يخفى ما في هذا الرأي من الضن بل إن شئت فقل بأنه كله ضن لا غير , و الصواب أن الشيخين كغيرهما من الائمة المتقدمين أصحاب هذا الشأن و أركانه لا يرون إعلال حديث الحفاظ الثقات المقلين من التدليس ((اسقاط الواسطة)) بالعنعنة وهذا هو الصواب حتى يتبين أن هذا الحافظ قد دلس وتراهم يقولون دلس ولا يقولون عنعن و عند غير المتخصصين ترى العكس وهم في عصرنا كثر لكن الائمة الحفاظ من المتقدمين و من تبعهم على ما اتخدوه منهجا في هذا العلم لا يطلقون بلا تقييد و لا يكثرون من الضنون بلا بينة ولا برهان , و الله المستعان , و من الأئمة الحفاظ الدين مشوا على هذا المنهج القويم الامام الحافظ طبيب العلل علي بن المديني رضي الله عنه - قال يعقوب بن شيبة السدوسي: سألت علي بن المديني عن الرجل يدلس أيكون حجة فيما لم يقل: حدثنا، قال: إذا كان الغالب عليه التدليس فلا حتى يقول: حدثنا. اهـ «الكفاية» (ص362) ...
¥