الأدلة التي استدل بها من قال بجواز المعازف من المتأخرين والرد عليهم.
لعل القارئ يستغرب هذا المبحث بعد ذكر إجماع السلف على تحريم المعازف وقد يظن البعض بسبب ذلك أن ما ذكر من الإجماع غير صحيح بسبب مخالفة مثل هؤلاء.
والجواب: أن المخالفة للإجماع إنما جاءت بعد انعقاد الإجماع، ومثل هذه المخالفة أياً كانت ومن أي أحد كانت، فلا يعتد بها إطلاقاً، كما سيأتي إن شاء الله.
ولنذكر الآن بعض أدلتهم مع الجواب عنها مراعياً الاختصار في ذلك:
1 - استدل بعضهم بما مر معنا من ضرب الدف في العرس والعيد وعند قدوم الغائب.
والجواب: أن هذا قد استثني بالنص الصحيح من أصل التحريم، وهذا مثل استثناء القليل من الفضة عند الحاجة إليه في الأواني، من أصل تحريم اتخاذ الفضة، ومثل استثناء من به حكة في جواز لبس الحرير من الرجال من أصل تحريم لبسه على الرجال، وقد مر معنا إنكار أبي بكر على الجاريتين عند عائشة، وما ذاك إلا لأنه يعلم أن الأصل في ذلك التحريم، ثم بين له النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك جائز في العيد بقوله: [دعهما فإن لكل قوم عيداً] ومثله قول قرضة بن كعب وأبي مسعود إنه قد رخص لنا في العرس.
قال ابن رجب: بعد أن ساق هذا الأثر: والرخصة في اللهو عند العرس تدل على النهي عنه في غير العرس.ا. هـ[نزهة الأسماع 39].
2 - ما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة في قصة الأحباش الذين كانوا يلعبون في المسجد يوم العيد.
والجواب: أن هذه القصة لا دلالة فيها إذ ليس فيها ذكر المعازف، وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأذن بضرب المعازف في المسجد.
3 - ومن أدلتهم خروج النساء وهن يضربن بالدف لاستقبال النبي صلى الله عليه وسلم عند الهجرة.
والجواب: أن هذه القصة لا تثبت فهي ضعيفة السند، إذ سقط من إسنادها ثلاثة رواة أو أكثر، ولو صحت لكانت دليلاً على جواز ذلك عند قدوم الغائب كما مر معنا، وقد ضعف القصة الحافظ العراقي والألباني وغيرهما.
4 - ومن أدلتهم ما أخرجه أحمد وأبوداود وغيرهما عن نافع مولى ابن عمر: أن ابن عمر سمع صوت زمارة راع، فوضع أصبعيه في أذنيه، وعدل راحلته عن الطريق، وهو يقول: يا نافع أتسمع؟ فأقول: نعم، فيمضي، حتى قلت: لا، فوضع يديه، وأعاد راحلته إلى الطريق، وقال: [رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع زمارة راع فصنع مثل هذا].
قالوا: فلو كان سماع الزمارة حراماً، لأمر ابنُ عمر نافعاً أن يسد أذنيه.
والجواب:
أ-أن هذا الحديث قال عنه أبوداود – كما في سننه –: حديث منكر.
ب-ولو صح لكان دليلاً عليهم، فإن سدَ النبي صلى الله عليه وسلم لأذنيه وسدَ ابن عمر لأذنيه من أوضح الأدلة على أن ذلك الصوت من المنكر.
ج-أن المحرم هو الاستماع لا السماع وفرق بين الأمرين، فالاستماع: هو قصد السماع، أما السماع فيطلق على مجرد ملاقاة الأصوات للسمع دون تقصد، وهذا مثل من كان مجتازاً بطريق فمر على من يقول كفراً أو كذباً أوغيبة، فسمع ذلك منه دون استماع، لم يأثم بمجرد السماع باتفاق المسلمين، ولو جلس واستمع إلى ذلك، ولم ينكره لا بقلبه، ولا بلسانه ولا بيده، كان آثماً باتفاق المسلمين، فلو أن ابن عمر ونافعاً لم يسدا أذنيهما فلا شيء عليهما، لأنهما لم يقصدا الاستماع، ولا تلازم بين القول بتحريم آلات المعازف وبين وضع الأصابع في الأذنين عند سماعها، فالقائلون بتحريم آلات المعازف لا يوجبون على أحد أن يضع أصبعيه في أذنيه عند سماعه لآلات المعازف دون تقصد.
د-يحتمل أن يكون ابن عمر ونافع، لم يبلغا بعد سن التكليف، عندما وقعت القصة لكل واحد منهما، فإن ابن عمر عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في أحدٍ ورده لصغر سنه.
5 - من أدلتهم: أن الأصل في الأشياء الحل والإباحة، ولا دليل على تحريم المعازف أو الآلات الموسيقية، فتبقى على أصل الحل والإباحة.
والجواب:
¥