أنه قد مر آنفاً الأدلة الصحيحة الصريحة على تحريم المعازف وآلات الموسيقى، بل الإجماع منعقد على تحريمها بحمد الله، وما يدّعونه من عدم وجود الدليل إنما هي دعوى ساقطة، يتعلقون بها، [كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ] [النور: الآية39].
شبهتان والجواب عنهما: ـ
الشبهة الأولى:
قد يقول قائل: إن ابن حزم الظاهري وغيره من المتأخرين قد خالف في المسألة، وعليه فالإجماع المذكور في تحريم المعازف والمزامير غير صحيح.
والجواب: أن من المعلوم عند أهل العلم، أن الخلاف المتأخر لا ينقض الإجماع المتقدم، وإلا لو كان الأمر كذلك لما بقي إجماع على وجه الأرض، لأنه لا يحصى المخالف للإجماع في المتأخرين، وهاهم أهل السنة والجماعة لا يزالون يذْكُرُون إجماع السلف ويحتجون به، مع مخالفة من خالف من أهل البدع بعد انعقاد الإجماع.
ولاشك أن ابن حزم وغيره ممن تأخر إذا خالف الإجماع المنعقد قبله لا ينظر إليه.
قال ابن تيمية – رحمه الله -: وإذا ذكروا نزاع المتأخرين لم يكن بمجرد ذلك من مسائل الاجتهاد التي يكون كل قول من تلك الأقوال سائغاً، لأن كثيراً من أصول المتأخرين مبتدع في الإسلام، مسبوق بإجماع السلف على خلافه، والنزاع الحادث بعد إجماع السلف خطأ قطعاً.ا. هـ[الفتاوى 13/ 26].
وهذه المسألة التي نحن فيها – أي مسألة المعازف – من هذا القبيل إذ لم يخالف فيها إلا من تأخر وشذ من الظاهرية كابن حزم، والصوفية.
قال ابن رجب - رحمه الله -: سماع آلات الملاهي، لا يعرف عن أحد ممن سلف الرخصة فيه، وإنما يعرف ذلك عن بعض المتأخرين من الظاهرية والصوفية ممن لا يعتد به.ا. هـ[نزهة الأسماع 69].
وقال ابن كثير – رحمه الله -: قد نقل غير واحد من الأئمة إجماع العلماء على تحريم اجتماع الدفوف والشبابات، ومن الناس من حكى في ذلك خلافاً شاذاً.ا. هـ[جواب لابن كثير ملحق بكتاب على مسألة السماع لابن القيم 472]
فها أنت ترى أن ابن رجب وابن كثير علموا بالخلاف الحادث بعد الإجماع ولم يأبهوا به، ولم يلتفتوا إليه، إذ إنه لا يعتد به. وسموه خلافاً شاذاً.
ولذا قال ابن تيمية: وأهل الظاهر [يعني الظاهرية أتباع ابن حزم] كل قول انفردوا به عن سائر الأمة فهو خطأ.ا. هـ[منهاج السنة 5/ 178].
الشبهة الثانية:
قالوا: إنه يكفي العامي أن يقلد أحد العلماء في مسائل الشريعة وابن حزم من العلماء، فلو قلده في مسألة المعازف فلا لوم عليه.
والجواب: أن الله سبحانه وتعالي أمرنا إذا وقع النزاع في مسألة شرعية أن نردها إلى الكتاب والسنة، قال سبحانه: [فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً] [النساء:59] فإن كان المكلف لا يستطيع فهم الأدلة، وجبَ عليه سؤال أهل العلم لقوله سبحانه: [فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ] [النحل:43] فإذا وقع الخلاف بين أهل العلم وجب على المكلف إتباع أعلمهم.
قال الشاطبي – رحمه الله –: العامي جاهل بمواقع الاجتهاد فلا بد له ممن يرشده إلى من هو أقرب إلى الحق، من هذين العالمين المختَلِفَين، وذلك إنما يكون بترجيح أحدهما على الآخر بالأعلمية والأفضلية، لأن الأعلمية تُغلب ظن العامي أن صاحبها أقرب للصواب.ا. هـ[الاعتصام 2/ 861/بتصرف يسير].
ومعنى كلامه: أنه يجب على العامي أن يتبع قول الأعلم من العلماء المختلفين.
وبنحوه قال الخطيب البغدادي حيث قال: إن كان العامي يتسع عقله ويكمل فهمه إذا عُقل أن يعقل، وإذا فُهم أن يفهم، فعليه أن يسأل المختلفين عن مذاهبهم، وعن حججهم، فيأخذ بأرجحها عنده، فإذا كان عقله يقصر عن هذا، وفهمه لا يكمل له، وسعه التقليد لأفضلهما عنده.ا. هـ.
وإنما تكون الأفضلية بالعلم، وإلا لو جاز للإنسان أن يتبع في كل مسألة من شاء من العلماء، لاجتمع فيه الشر كله، لأن زلات العلماء كثيرة، فمن تتبعها اجتمع فيه دين جديد غير دين الله الذي أنزله لعباده وارتضاه لهم.
¥