قلت: فهل كان مالك يكره أن ينبذ البسر المذبب الذي قد رطب بعضه؟ قال: ما سمعت من مالك فيه إلا الحديث نهى أن ينبذ الزهو والرطب جميعاً، ولا يعجبني إلا أن يكون بسراً كله أو رطباً كله.
قال ابن عبد البر رحمه الله في ((التمهيد)) بعد ذكر أحاديث النهي عن الجمع بين الخليطين (14/ 139): الأحاديث في هذا الباب صحاح متوافرة، تلقاها العلماء بالقبول، لكنهم اختلفوا في معناها، فذهب مالك والشافعي وأصحابهما إلى القول بظاهرها وعمومها، ونهوا عن الخليطين جملة واحدة.
قال مالك: لما ذكر حديث النهي عن أن ينبذ البسر والرطب جميعاً، والزهر والرطب جميعاً قال: وعلى هذا أدركت أهل العلم ببلدنا.
وقال الشافعي: نهى رسول الله صلعم عن الخليطين فلا يجوزان بحال.
ولا يجمع عند مالك والشافعي بين شرابين سواء نبذ كل واحد منهما على حده، أو جمع شيئان فنبذا جميعاً.
وقال رحمه الله في ((الاستذكار)) (24/ 288): قول مالك هذا يدل على أن النهي المذكور نهي عبادة واختيار، لا للسرف والإكثار كما قال أبو حنيفة. وقول الشافعي في ذلك كقول مالك. قال ورد أبو حنيفة هذه الآثار برأيه. وقال لا بأس بشرب الخليطين من الأشربة البسر والتمر والزبيب والتمر، وكل ما لو طبخ على الانفراد حل كذلك إذا طبخ مع غيره.
وقال صاحب كتاب ((الذخيرة)) من كتب المالكية (4/ 117): ولا ينبذ تمر مع رطب، ولا حنطة مع شعير، ولا أحدهما مع تين أو عسل؛ لأن خلطهما يسرع بشدتهما. وقاله الشافعي وابن حنبل خلافاً لأبي حنيفة.
وفي ((صحيح مسلم)) نهيه صلعم عن شرب الخليطين، وإذا انتبذ كل واحد منهما وحده لا ينبغي خلطهما عند الشرب.
وقال رحمه الله في ((الكافي)): ولا يجمع التمر والزبيب بنبيذ، ولا يخلط نبيذ تمر ونبيذ زبيب، والخليطان من جميع الأشربة التي يصنعها الناس لا يجوز شربها إلا أنه لا يحد شاربها إذا لم يسكر الكثير منها، والنهي عن الخليطين لم يجئ مجيء تحريم المسكر، فلهذا صار شرب الخليطين مكروهاً من غير تحريم، وصفة الخليطين أن يجمع بين نوعين بجعل كل واحد منهما أن ينبذ على حدته، وذلك أنه إذا جمع بينهما أسرعت الشدة إلى ذلك الشراب.
قال ابن العربي المالكي كما نقله عنه الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/ 169): قال ابن العربي: ثبت تحريم الخمر لما يحدث عنها من السكر وجواز النبيذ الحلو الذي لا يحدث عنه سكر، وثبت النهي عن الانتباذ في الأوعية، ثم نسخ، وعن الخليطين فاختلف العلماء فقال أحمد وإسحاق وأكثر الشافعية بالتحريم، ولو لم يسكر. وقال الكوفيون: بالحل.
قال: واتفق علماؤنا على الكراهة، لكن اختلفوا هل هو للتحريم أو للتنزيه؟ واختلف في علة المنع فقيل: لأن أحدهما يشد الآخر. وقيل: لأن الإسكار يسرع إليهما.
قال: ولا خلاف أن العسل باللبن ليس بخليطين؛ لأن اللبن لا ينبذ. لكن قال بن عبد الحكم: لا يجوز خلط شرابي كالورد والجلاب وهو ضعيف. قال: واختلفوا في الخليطين لأجل التخليل. ثم قال: ويتحصل لنا أربع صور أن يكون الخليطان منصوصين فهو حرام، أو منصوص ومسكوت عنه، فإن كان كل منهما لو انفرد أسكر فهو حرام قياساً على المنصوص، أو مسكوت عنهما، وكل منهما لو انفرد لم يسكر جاز.
قال: وهنا مرتبة رابعة، وهي ما لو خلط شيئين وأضاف إليهما دواء يمنع الإسكار فيجوز في المسكوت عنه، ويكره في المنصوص.
قال النفراوي المالكي في ((الفواكه الدواني)) (2/ 288) في الكلام عن الخليطين قال: واختلف في النهي، فقيل: على الحرمة لاحتمال تخمر أحدهما بسبب الخلط. وقيل: على الكراهة، والذي رجحه خليل وشراحه الكراهة، فإنه قال عاطفاً على المكروه وشرب خليطين ومحل النهي حيث طال زمن الانتباذ لا أن قصر بحيث يقطع بعدم توقع الإسكار منهما، وإلا كما يجوز شرب كل من غير خليط.
وقال الدسوقي في ((حاشيته)) (2/ 117): وكما يكره شرب شراب الخليطين يكره أيضاً نبذهما معاً خلافاً لما في عبق من الحرمة والخلاف في نبذهما معاً للشرب، وأما للتخليل فلا كراهة في نبذهما معاً على المشهور كما نص عليه ابن رشد وغيره، ونص في الجلاب على الكراهة خيفة التطرق إلى خلطهم.
قال ابن رشد ظاهر ((الموطأ)): أن النهي عن هذا نهي تعبد لا لعلة، وعليه فيكره شرب شراب الخليطين سواء أمكن إسكاره أو لا.
¥