5 - ويقول ابن تيمية: (فإن العبادات مبناها على التوقيف والاتباع لا على الهوى والابتداع)
6 – ويقول ابن القيم: (والعبادات مبناها على الاتباع)
فهذه النصوص _ وغيرها كثير _ تؤكِّد على أنَّ العبادات توقيفية، فهل معنى ذلك أنَّ العبادات غير معقولة المعنى ولا تعلل؟ أو أنَّ هذه النصوص لها معنىً آخر؟
الأظهر أن هذه النصوص لا تنفي التعليل عن العبادات بل العبادات لها معاني وعلل وأحكام وأسرار، ويدلُّ على هذا أنا نجد كثيراً من النصوص تذكر الحكم والعلل للعبادات فالله عز وجل يقول في الصلاة: ? وأقم الصلاة لذكري ?، ويقول: ? إنَّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ?، ويقول سبحانه عن الزكاة: ? خذ من أموالهم صدقةً تطهرهم وتزكيهم بها ?، ويقول سبحانه في الصوم: ? كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ?، ويقول سبحانه في الحج: ? وأذِّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كلِّ فجٍّ عميقٍ ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام?، ويقول سبحانه في الجهاد: ? وقاتلوهم حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدين كله لله ?، ووجدنا كثيراً من أهل العلم ذكروا علل العبادات وحِكَمها، فلا فرق إذاً بين العبادات وغيرها من أحكام الشريعة فالكل شرعه الله لمصالح العباد الدنيوية والأخروية فلا يخلو حكم من مصلحة.
يقول ابن القيم: (ليس في الشريعة حكم واحد إلا وله معنى وحكمة يعقله من عقله، ويخفى على من خفي عليه) وهذا هو الأصل في الأحكام الشرعية أنَّها معللة:
يقول القرافي: (الحكم مهما أمكن أن يكون معللاً لا يجعل تعبُّداً)
ويقول الآمدي: (الغالب من الأحكام التعقل دون التعبُّد)
ويقول المقري: (الأصل في الأحكام المعقولية لا التعبُّد)
ويقول ابن دقيق العيد: (متى دار الحكم بين كونه تعبُّداً أو معقول المعنى كان حمله على كونه معقول المعنى أولى؛ لندرة التعبُّد بالنِّسبة إلى الأحكام المعقولة المعنى)
ويقول القاضي أبو يعلى: (الأصل هو تعليل الأصول، وإنما ترك تعليلها نادراً فصار الأصل هو العام الظاهر).
إذاً ما مراد العلماء من قولهم: الأصل في العبادات التوقيف والتعبُّد والاتباع؟
لا شك أن كلام العلماء السابق في كون الأصل في العبادات التوقيف والتعبُّد والاتباع محمول على ثلاث حالات:
الحالة الأولى: حينما يكون الحكم مما لا يدرك معناه، أي أن طبيعة الحكم نفسه تقتضي التوقف عند ذاك الحكم، وتستدعي عدم بذل الجهد في استخلاص معنى لها كالحكمة من جعل ركعات الفجر اثنتين، والظهر أربعاً، والمغرب ثلاثاً وجلُّ المسائل التي يذكرها الشاطبي _ في كلامه على تعليل العبادات _ من هذا القبيل؛ إذا إنها ممَّا لا يدرك معناه بطبيعته.
الحالة الثانية: أن لا يترتب على النَّظر في الحكم فائدة علميِّة، ولا ينبني عليها أثر فقهي ويكون البحث فيها مدخلاً للشطط والتكلُّف والافتئات على الشريعة.
وهذا ما نبَّه عليه المقري بقوله: (التدقيق في تحقيق حِكَم المشروعية من مُلَح العلم لا من متنه عند المحققين، بخلاف استنباط علل الأحكام وضبط أمارتها، فلا ينبغي المبالغة في التنقير عن الحِكَم، لا سيما فيما ظاهره التعبُّد؛ إذ لا يُؤْمَن فيه ارتكاب الخَطَر والوقوع في الخَطَل، وحسب الفقيه من ذلك ما كان منصوصاً أو ظاهراً أو قريباً من الظهور)
ومثال ذلك: البحث في حكمة مواقيت الصلاة كأن يقال: (الزوال وقت الانقلاب إلى العادة، فطلب عنده البداية بالعبادة، ووقت العصر وقت الانتشار في طلب المعاش، فقيل لهم: تزودوا قبل ذلك للمعاد، والمغرب وقت الانقلاب إلى العادة أيضاً، والعشاء وقت النوم، والفجر وقت اللذة ... )، وهذا النوع هو عبَّر عنه إمام الحرمين الجويني بقوله:
(العبادات البدنية التي لا يلوح فيها معنىً مخصوص، ولم تكن معقولة المعنى)، ولذلك مثل لها بالحكمة في التكبير عند التحريم، والتسليم عند التحليل، واتحاد الركوع، وتعدد السجود.
¥