تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ويقول الغزالي: (مبنى العبادات على الاحتكامات، ونعني بالاحتكام: ما خفي علينا وجه اللطف فيه؛ لأنَّا نعتقد أنَّ لتقدير الصُّبح بركعتين، والمغرب بثلاث، والعصر بأربع سراً، وفيه نوع لطف وصلاح للخلق استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه، ولم نطلع عليه فلم نستعمله، واتبعنا فيه الموارد).

الحالة الثالثة: التعليل الذي يقتضي القياس على العبادات: أي تعدية علل العبادة لإنشاء عبادة زائدة لم يرد بها الشرع، وهذا ما عبَّر عنه ابن قدامة بقوله: (الحكم إن كان تعبُّدياً فالقياس فيه ممتنع)

ويقول الطوفي في هذا النوع من العبادات: (وإنما اعتبرنا المصلحة في المعاملات وشبهها؛ لأن العبادات حق الشرع خاص به، ولا يمكن معرفة حقه كمَّاً، وكيفاً، وزماناً، ومكاناً إلا من جهته؛ فيأتي به العبد على ما رسم لسيده)

ويقول أبو بكر بن العربي: (ونطاق القياس في العبادات ضيِّق، وإنَّما ميدانه المعاملات والمناكحات وسائر أحكام الشرعيات، والعبادات موقوفة على النصّ)

ولا شك أن إثبات عبادة جديدة زائدة على العبادات المعلومة بالنصوص الشرعية من الكتاب والسنة بالقياس ممنوع باتفاق، وإنما وقع الخلاف في القياس في أصول العبادات.

فهذه الحالات الثلاث هي مراد العلماء في قولهم بتوقيف العبادات، ومما يؤيد القول بتعليل العبادات أمور:

الأمر الأول: أن نصوص القرآن والسنة متواترة على تقرير هذا الأصل سواء كان عن طريق الإجمال أو التفصيل، وقد سبق ذكر بعض الأمثلة لتعليل بعض العبادات، والأدلة العامة التي تدل على اشتمال الأحكام على مصالح تشملها، ومن ذلك قوله تعالى:? وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين ?

يقول الإيجي: (وظاهر الآية التعميم: أي يفهم منه مراعاة مصالحهم فيما شرع لهم من الأحكام كلِّها؛ إذ لو أرسل بحكمٍ لا مصلحة لهم فيه لكان لغير رحمة؛ لأنَّه تكليف بلا فائدة، فخالف ظاهر العموم .. )

الأمر الثاني: أنَّ هذا هو مسلك السلف من الصحابة ومن بعدهم.

الأمر الثالث: أنَّ القول بتعليل العبادات هو الأصل؛ فالعبادات من أحكام الله تعالى وشرعه، وهو سبحانه لا يشرع إلا ما فيه مصالح العباد في الدنيا والآخرة، يقول الطاهر ابن عاشور: (وجملة القول: أنَّ لنا اليقين بأنَّ أحكام الشريعة كلُّها مشتملةٌ على مقاصد، وهي حكم ومصالح ومنافع)، ولذا تتطلَّع العقول دوماً لمعرفة علل الأحكام الشريعة واستنباطها، وتبحث عن حكمها وأسرارها، يقول الغزالي: (كأن العقول مشيرة إلى إحالة كل حكم على معنى، والاعتراف بالتحكُّم ضرورة العجز، فإذا فقد وجه سوى الوجوه الخفية الضعيفة وجب التعليل بها)

الأمر الرابع: أن القول بتعليل العبادات يزيد المرء عبودية ومحبة لله، وإيماناً واطمئناناً لما يقوم به من عبادة، يقول ابن القيم رحمه الله: (فإن للحكم في كل مسألة من مسائل العلم منادياً ينادي للإيمان بها علماً وعملاً فيقصد إجابة داعيها ولكن مراده _ أي الهروي _ بداعي الحكم الأسرار والحكم الداعية إلى شرع الحكم فإجابتها قدر زائد على مجرد الامتثال؛ فإنها تدعو إلى المحبة والإجلال والمعرفة والحمد، فالأمر يدعو إلى الامتثال، وما تضمنه من الحكم والغايات تدعو إلى المعرفة والمحبة)

ويقول ابن دقيق العيد _ وهو يتكلم عن مشروعية الرَّمل في الطَّواف _: (وبهذه النكتة يظهر لك أنَّ كثيراً من الأعمال التي وقعت في الحج، ويقال فيها: إنها تعبُّد ليست كما قيل ألا ترى أنا إذا فعلناها وتذكرنا أسبابها حصل لنا من ذلك تعظيم الأولين وما كانوا عليه من احتمال المشاق في امتثال أمر الله فكان هذا التذكر باعثاً لنا على مثل ذلك ومقرراً في أنفسنا تعظيم الأولين وذلك أمر معقول)

الأمر الخامس: أن القول بتعليل العبادات فيه رد على الملحدة وغيرهم ممن يطعن في أحكام الشرعية زاعمين أنها تضاد العقل، ولا حكمة ولا مصلحة فيها يقول القرطبي رحمه الله: (وأنكرت الملحدة الحج فقالت: إن فيه تجريد الثياب وذلك يخالف الحياء، والسعي وهو يناقض الوقار، ورمي الجمار لغير مرمى وذلك يضادّ العقل فصاروا إلى أن هذه الأفعال كلُّها باطلة؛ إذ لم يعرفوا لها حكمة ولا علة، وجهلوا أنه ليس من شرط المولى مع العبد أن يفهم المقصود بجميع ما يأمره به، ولا أن يطلع على فائدة تكليفه وإنما يتعين عليه الامتثال .. )

الأمر السادس: أنَّ كون العبادات معقولة المعنى أبعد عن الحرج؛ لأنَّها تنفي صبغة التحكُّم والتسلط عن هذه الأحكام، فليس من مقصود الشارع إخضاع المكلفين تحت سلطان التكليف دون إمكان العثور على وجه معقول ينهض بتفسيره لنفعهم أو صالحهم،وإنما مقصوده أن يتحقق سلطان التشريع في نفوسهم بالرغبة لا بالإكراه، والاختيار لا بالاضطرار؛ إذ قصد الشارع من المكلف أن يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبدٌ له اضطراراً.

الأمر السابع: أن الرخص الواردة في أحكام العبادات كلها معللة معقولة المعنى كالمشقة في قصر المسافر وإفطاره والجمع بين الصلاتين.

يقول القرافي: (الشرع ورد بالرُّخَص:كالقصر، والفطر، وأجمع العلماء على تعليلها)

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير