[الشيخ الطنطاوي في عرفات]
ـ[أبو زارع المدني]ــــــــ[25 - 12 - 07, 11:45 ص]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين , الرحمن الرحيم , مالك يوم الدين
اللهم صلّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
قبل أيام، عشنا مع الشيخ علي الطنطاوي -يرحمه الله- في الصحراء التي أحَبَّها كثيراً، في كتابه "مِنْ نفحات الحَرَم" ..
واليوم، يحدّثنا الشيخ الأديب مِن عرفات ..
عن آثار ذلك المشهد الإيماني العجيب، وعن أهمية ذلك التجمّع الإسلامي المَهيب، قائلاً:
وعرفات، إنها لن ترى عينُ البشر مَشهدًا آخَرَ مثله، هيهاتَ ما في الدنيا ثانٍ لهذا المشهد العَظيم، ولقد يجتمع في المعارض والألعاب الأولمبية، واحتفالات التتويج في بلاد الغرب حُشود من الناس وحشود؛ ولكن شتانَ ما بين الفريقينِ، أولئك جاؤوا للمتعة والفرجة والتجارة، وحملوا معهم دُنْياهم، وقصدوا بَلدًا زاخرًا بأسباب اللذة والتَّسلية، وهؤلاء خَلَّوْا دنياهم وراء ظُهُورهم، ونزعوها عن أجسادهم ومِنْ قلوبهم، وقصدوا بلدًا قَفْرًا مُجْدِبًا، صحراءَ ما فيها ظلٌّ، ولا ماء، لا يريدون إلا وَجْه الله.
مَشهدٌ لو كان يَجوز أن يشهده غير مسلم لاقْتَرَحْتُ أن تجعله هيئة الأمم المتحدة عيدها الأكبر، إذْ هنا أُعْلِنَتْ حقوق الإنسان، لا كما أُعْلِنَتْ في الثورة الفرنسية، ولا كميثاق الأطلنطي الذي كتب على الماء، أعلنت قبل ذلك بأكثر من ألف سنة، وطُبّقَتْ حقيقةً يوم قام سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، فأعْلَن الحرية، والمساواة، وحُرْمة الدماء، والمساكن، ووصّى بالنساء، وقَرّر لهن من ذلك اليوم الاستقلال الشخصي والمالي، مع أنَّ أكثر قوانين الأرض المدنية، لا تقر للمتزوجة في أموالها هذا الحق، وكان هذا المشهد في كل سَنة دليلاً قائمًا يَمْلأ عُيون البشر وأسماعهم على أن ما قرَّرَه محمدٌ قد طُبّقَ أكمل التطبيق.
مشهد يهدم الفروق كلها، فروق الطبقات، وفروق الألوان، وفروق الأجناس، الناس كلهم إخوة لا ميزة لأحد على أحد إلا بالعمل الصالح، وإذا كان اللباس الرسمي في الحفلات والمواقف الرسمية ما تعرفون، فاللباس الرسمي هنا قطعتان من قماش فقط، لا خياطة، ولا أناقة، ولا زخرف، ولا يفترق في هذا المقام أكبرُ مَلِك عن أصغر شَحَّاذ.
إنه مشهد عجيب، إنه أُعْجُوبة الأعاجيب.
عشرات وعشرات من آلاف الخيام، تحتها أقوام من كل بُقْعة في الأرض، لا يجمعهم لون، ولا لسان، ولا بلد؛ ولكنهم لا يقفون ساعة حتى يحسّ كلٌّ أنه أخٌ للآخر، أعزُّ عليه من أخيه لأمه وأبيه، إخوان وحَّدتْهُمُ العقيدة، ووحدتهم القبلة، وربما عادى الأخ أخاه حقيقة إن لم يكن دينه من دينه، ومذهبه من مذهبه؛ لأن أُخُوَّةَ الدين والمذهب أقوى من أخوة النسب.
إنهم يَضِجُّون بكل لغة، يهتفون جميعًا، لبيك اللهم لبيك، لبيك إن الحمد لك والملك لا شريك لك، دَعَوْتَنَا فجئنا من أقاصي الدنيا، لم تمنعْنا الجبال، ولا القِفار، ولا البحار، ولم يُمسكنا حُبُّ الأهل والولد، دَعَوْتَنَا إلى القرآن لا قراءةً وترنيمًا وتغييبًا؛ بل عملاً وتطبيقًا، فقلنا: لبيك اللهم لبيك، دَعَوْتَنَا إلى العِزَّةِ والوَحْدَةِ والصدق في القول والعمل، فقلنا: لبيك اللهم لبيك، دَعَوْتَنَا إلى الجهاد، جهاد النفس، وجهاد الكافرين فقلنا: لبيك اللهم لبيك.
لبيك اللهم لبيك، لبيك إن الحمد لك، والملك لا شريك لك.
إن الحج هو الدَّوْرَةُ التدريبية الكبرى، التي تقوي الأجسام والأَرْوَاح، التي تُربِّي الأجساد والقلوب، التي تعد للحق جيشًا جُنده مُتمرِّسُون بالشدائد، حَمّالُون للمَصاعِب، سامُون بأرواحهم إلى حيث لا تستطيع أن تبلغ مداه روحٌ.
إن الحج عَيْشٌ في تاريخ المَجْد في سيرة الرسول، في سماء الإيمان، إنه النهر الذي يغسل أَوْضَار الناس، إنه الرئة التي تُصفِّي الدم، وتَردُّه أحمرَ نظيفًا مملوءًا بالصحة والحياة.
إنه المؤتمر الإسلامي الأكبر.
أسأل الله أن يكتبه لمن لم يَنعم به منكم، وأن يجعل لي ولمن حج مَعادًا إليه ..
وأن يبارك لكم في عيدكم، ويُوَفِّقُكم فيه إلى كل ما يُرْضِيهِ.
المصدر: من نفحات الحرم/ للشيخ علي الطنطاوي. دمشق، دار الفكر، 1400هـ. ص 56 – 58.
على موقع الألوكة/
http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?ArticleID=1826