الثاني/أنه ليس في الحديث أن الصحابة الذين صلوا معه –صلى الله عليه وسلم- كانوا يصلونها فريضة، فيحتمل أنهم صلوا الفريضة في المسجد، ثم أتوا إلى النبي-صلى الله عليه وسلم- فصلوا معه نافلة، والمطلوب في هذا المقام لا يتحقق إلا بمعرفة نوع الصلاة الحاصلة منهم، إذ هي محل الإقرار، ولا يلزم من كون صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فرضا أن تكون صلاتهم كذلك!.
ومن أدلة المخالفين على عدم وجوب صلاة الجماعة في المسجد:
ما أخرجه أحمد والثلاثة من حديث يزيد بن الأسود -رضي الله عنه- أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَاةَ اَلصُّبْحِ , فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا, فَدَعَا بِهِمَا, فَجِيءَ بِهِمَا تَرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا, فَقَالَ لَهُمَا: "مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا؟ " قَالَا: قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا. قَالَ: "فَلَا تَفْعَلَا, إِذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمْ, ثُمَّ أَدْرَكْتُمْ اَلْإِمَامَ وَلَمْ يُصَلِّ, فَصَلِّيَا مَعَهُ, فَإِنَّهَا لَكُمْ نَافِلَةٌ".
وجه الاستدلال بالخبر على عدم الوجوب: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقر هذين الرجلين على ترك صلاة الجماعة في المسجد، والقاعدة في الأصول: [أن إقرار النبي صلى الله عليه وسلم يدل على الجواز]، ومن ثم يحمل الأمر في حديث الأعمى على الندب، إذ القاعدة في الأصول: [أن إقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن ترك المأمور به دليل على صرف الأمر من الإيجاب إلى الندب].
وقد يجاب عنه بجوابين:
((الجواب الأول)): {من جهة الثبوت}:
ويقال فيه: أن هذا الخبر مردود، إذ فيه راويان مجهولان، وهما: يعلى بن عطاء، وجابر بن يزيد، والقاعدة في الأصول: [أن جهالة الراوي تقتضي رد خبره].
ونوقش هذا الجواب:
بأن يعلى بن عطاء الليثي ثقة، وثقة ابن معين والنسائي وخرج له مسلم ((التوثيق الضمني)) [انظر: تهذيب التهذيب (451/ 4)].
وجابر بن يزيد بن الأسود ثقة، وثقه النسائي [انظر: تهذيب التهذيب (283/ 1)]، والقاعدة في الأصول: [أن العدل الواحد يكفي في تعديل المخبر].
إذا تقرر ذلك، وتقرر أن القاعدة في الأصول: [إذا تعارض التوثيق والتجهيل فالحكم للتوثيق]، فلا يصح التعويل على هذا الجواب!.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في التلخيص الحبير (30/ 2): "، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: إسْنَادُهُ مَجْهُولٌ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لِأَنَّ يَزِيدَ بْنَ الْأَسْوَدِ لَيْسَ لَهُ رَاوٍ غَيْرُ ابْنِهِ، وَلَا لِابْنِهِ جَابِرٍ رَاوٍ غَيْرُ يَعْلَى، قُلْت: يَعْلَى مِنْ رِجَال مسْلِمٍ، وَجَابِرٌ وَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ وَقَدْ وَجَدْنَا لِجَابِرِ بْنِ يَزِيدَ رَاوِيًا غَيْرَ يَعْلَى. خْرَجَهُ ابْنُ مَنْدَهْ فِي الْمَعْرِفَةِ مِنْ طَرِيقِ بَقِيَّةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ ذِي حِمَايَةٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ جَابِرٍ".
((الجواب الثاني)): {من جهة الدلالة}:
ويقال فيه: ليس في الحديث أنهما سمعا النداء، وأنهما كان غير معذورين بترك الجماعة في المسجد، فيحتمل أنهما لم يسمعا، أو سمعا ولكن كانا معذورين، والقاعدة في الأصول: [أن الاحتمال – أي: المساوي- يسقط الاستدلال]، ولا يصح القول بالعموم، لأنه فعل، والقاعدة في الأصول: [أن الفعل لا عموم له]، ومما يقوي احتمال عدم سماعهما للنداء أنه قد جاء في بعض روايات الحديث أن هذه الواقعة كانت في الحج في مسجد الخيف [سنن النسائي (112/ 2)].
ونوقش هذا الجواب:
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل منهما، والقاعدة في الأصول: [أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال]، فيشمل ما إذا سمعا أولم يسمعا، وما إذا كان معذورين أو غير معذورين.
وردت هذه المناقشة:
بأن القاعدة في الأصول -على الصحيح-: [أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال لا ينزل منزلة العموم في المقال]، ومأخذ هذه القاعدة: احتمال علمه صلى الله عليه وسلم بخصوص الحال، ومن ثم لم يقع الاستفصال.
قال إمام الحرمين الجويني –رحمه الله- في البرهان بعد ذكره لاستدلال الشافعي -رحمه الله- بالقاعدة السابقة في قصة غيلان -رضي الله عنه- (237/ 1): " وهذا فيه نظر- عندي- من حيث إنه لا يمتنع أن الرسول -عليه السلام- كان عرف ذلك، فنزل جوابه على ما عرف، ولم ير أن يبين لرجل حديث العهد بالإسلام علة الحكم ومأخذه وعليه يجري معظم الفتاوى، والمفتي يطلق جوابه للمستفتي إذا رأى الجواب منطبقا على وفق الحادثة، وإن كان ذلك الحكم لو أرسل لفصل، فهذا وجه، وإن تحقق استبهام الحال على الشارع -صلى الله عليه وسلم- وصح مع ذلك أنه أرسل جوابه فهذا يقتضي لا محالة جريان الحكم على التفاصيل واسترساله على الأحوال كلها، ولكنا لا نتبين في كل حكاية تنقل إلينا أنها كانت مبهمة في حق الرسول وجوابه المطلق كان مرتبا على استبهامها فمن هذه الجهة لا يبقى مستمسك في محاولة التعميم وادعاء قصد ظهوره في حكايات الأحوال المرسلة ".
.............................. .............................. .........................
(6) - في الحديث دليل على تحريم الانشغال-بجميع صوره- عن إتيان المسجد بعد سماع النداء (ومن ذلك: فتح المحلات التجارية، وتعاطي البيع والشراء)، ومأخذ الحكم من قوله: " فأجب " فهذا أمر، والقاعدة في الأصول: [أن الأمر بالشيء نهي ضده]، والقاعدة في الأصول: [أن النهي المطلق للتحريم]، والقاعدة في الأصول: [أن وسيلة المحرم محرمة].
.............................. .............................. .........................
أكتفي بهذا القدر، والله تعالى أعلم.
كتبه / جلال بن علي بن حمدان السلمي.
مكة المكرمة
¥