لو جاءك واحد في الرؤيا وقال لك: صلِّ كذا وكذا من الصلوات، أو صُم، لم يجز العمل بهذه الرؤيا، لأن التشريع انتهى، ما هناك دليل إلاّ من الكتاب أو السنّة، فليس هناك تشريع بعد وفاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولاسيّما في أمور التّوحيد، وأمور العقيدة، فهؤلاء الذين شرّعوا في أمور العقيدة، فبنوا الأضرحة على القبور، والرسول صلى الله عليه وسلم ينهى عن ذلك، وطافوا بها، وتقربوا إليها، كل هذا مناف للكتاب والسنّة، لأن الله سبحانه وتعالى لم يشرَع لنا هذه الشركيّات، وهذه الخرافات، وهذه البِدْعيّات والمحدثات. "إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد"
فنخلص أن الرؤيا إما أن تكون من الله، أو مما يحدث المرء به نفسه في اليقظة فيراه في المنام، وإما من الشيطان، فإذا كان الإنسان عنده قلة معرفة بحقيقة الدين أمرته الشياطين بأمر لا ينكره، وهنا وقع الانحراف عند كثير من طوائف المسلمين، فإذا كان المرء عند قلة معرفة بحقيقة الشريعة أمرته الشياطين بأمر لا ينكره، فتراه يتوهم ما لا يطاق، وهذا عندهم من الكشف، وعلم الباطن الذي لا يبلغ درجته إلا المقربين.
وحجتهم في ذلك ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {أيها الناس إنه لم يبقَ من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له" أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان في "صحيحه" والبيهقي في "سننه".
حيث حملوا هذا الحديث وغيره من الأحاديث التي جاءت في نفس السياق على غير محمله، وفهموه على غير حقيقته فاضطربت أفهام وزلت أقدام.
وتناسى القوم قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الرؤيا ثلاث، منها أهاويل من الشيطان ليحزن بها ابن آدم، ومنها ما يهم به الرجل في يقظته فيراه في منامه، ومنها جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة} ابن أبي شيبة وابن ماجه وابن حبان في صحيحه
وتمادى القوم في ذلك حتى أصبحت رمزا لهم ودليلا صادقا على كراماتهم حتى زعم بعضهم: أنَّه كان كثير الرؤيا للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في المنام، حتى كأنَّه لا يفارقه
وكان يقول: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ النَّاس يكذبوني في صحة رؤيتي لك، فقال: وعزة الله، وعظمته مَن لم يؤمن بها أو كذَّبك فيها لا يموت إلا يهوديّاً أو نصرانيّاً أو مجوسيّاً !!
قال الشيخ سفر الحوالي: (هذا الكلام، إنَّه لا يحتاج إلى تعليق)
"الرد على الخرافيين ".
فمن أصول عقيدة أَهل السنَّة والجماعة: التصديق بالرّؤيا الصالحة، وهي جزء من النبوة، والفراسة الصادقة للصالحين حق، قال الله تعالى: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]، وقال النَبِيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {لَمْ يَبْقَ مِنَ النبوةِ إِلَّا المبَشِّرات» قالوا: وما المبشرات؛ قال: الرؤيا الصالِحة} البخاري.
لكن ليس كما فهما هؤلاء القوم الذين لا يكادون يفقهون حديثا، فلا ينبغي أن ننصب أنفسنا في مقام التشريع بناءا على هذه الأدلة خاصة رؤيا الأنبياء والقياس عليها، فهو قياس باطل لأنه قياس مع وجود الفارق لأن رؤيا الأنبياء وحي قال الإمام الرباني ابن القيم: (ورؤيا الأنبياء وحي فإنها معصومة من الشيطان وهذا باتفاق الأمة ولهذا أقدم الخليل على ذبح ابنه إسماعيل عليه السلام وأما رؤيا غيرهم فتعرض على الوحي الصريح فإن وافقته وإلا لم يعمل بها) "مدارج السالكين".
كما أن الرؤيا الصالحة جزء من النبوة في حق الأنبياء فقط. قال أبو زرعة العراقي: (لا يتخيل من هذا الحديث أن رؤيا الصالح جزء من أجزاء النبوة فإن الرؤيا إنما هي من أجزاء النبوة في حق الأنبياء عليهم السلام وليست في حق غيرهم من أجزاء النبوة ولا يمكن أن يحصل لغير الأنبياء جزء من النبوة) "طرح التثريب".
قال الإمام الخطابي: (وإنما كانت من أجزاء النبوة في حق الأنبياء صلوات الله عليهم دون غيرهم لأن الأنبياء صلوات الله عليهم يوحى إليهم في منامهم كما يوحى إليهم في اليقظة ثم قال وقال بعض أهل العلم معناه أن الرؤيا تجيء على موافقة النبوة لا أنها جزء باق من النبوة) "معالم السنن".
وقيل غير ذلك ورجح هذا القول القاضي أبو بكر بن العربي، والإمام ابن حزم وقال: (وهذا هو الأظهر والله أعلم ويكون خارجا على مقتضى ألفاظ الحديث بلا تأويل يتكلف) " الفصل لابن حزم، وعارضة الأحوذي"
والإجماع منعقد على أن الرؤيا لا تثبت الأحكام. قال العراقي: (قد يفهم من كون الرؤيا جزء من أجزاء النبوة ولم يذكر أنها جزء من الرسالة أنه لا يعتمد عليها في إثبات حكم وإن أفادت الاطلاع على غيب فشأن النبوة الاطلاع على الغيب وشأن الرسالة تبليغ الأحكام للمكلفين ويترتب على ذلك أنه لو أخبر صادق عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم بحكم شرعي مخالف لما تقرر في الشريعة لم نعتمده وذكر بعضهم أن سبب ذلك نقص الرائي لعدم ضبطه وقد حكي عن القاضي حسين أن شخصا قال له ليلة شك رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال لي صم غدا أو نحو ذلك فقال له القاضي: قد قال لنا في اليقظة لا تصوموا غدا فنحن نعتمد ذلك أو ما هذا معناه) اهـ.
وحكى القاضي عياض الإجماع على عدم اعتماد المنام في ذلك." طرح التثريب"
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات وصلى الله على من بعث رحمة للعالمين.
الفقير لعفو ربه أبي يحيى رشيدالشهيبي المغربي