" الجواب أن إقرارَ الزوج المذكور للزوجة المُتَّهَمِ بالميل إليها لها بالدّّين وتَصْييرِ نِصفِ الدار المذكورة لها عندي باطل حتى يُعلمَ أصل الدَّين بالبينة، أو يَقُومَ لذلك دليلٌ أنها كانت تقتضيه منه أو تطلبه به طَلَبَ الاقتضاء الشديد المؤدي إلى المخاصمة فيه والمحاكمة؛ فَيَصِحُّ الدَّيْن ويبقى النظر في صحة التصيير وفساده، فإن رَفَع يده عن الجزء الذي صَيَّرَ وحازته عنه عَقِبَ التصيير صَحَّ، وإن لم تقبضه عنه حتى طال الزمان أو مات بَطُل على قول أبي عمران (3) وغيرِه، وصَحَّ على قول يحيى بنِ عمر (4)، وسُحنون وأبي بكر بنِ عبد الرحمن (5) وغيرهم، فَيَتَرَجَّحُ عندي الحكمُ في هذه النازلة بقول أبي عمران ومن قال بقوله في هذه النازلة خاصة، لِمَا ثَبَتَ من ميله إليها، ويُحْمَلُ على أنهما لم يَعْقِداه من أول عَقْدِهِما إلا على أن الجزءَ المُصَيَّرَ لا يُقبَضُ إلا بَعْدَ مَوتٍ أو فِراقٍ فلا يجوز بإجماع العلماء.
وأما الزوجةُ المنفيةُ فإن لها الرجوع في تَرِكَة الزوج بنفقتها وبما أنفقته على أولادها الصغار من مالها، أو ما تَسَلَّفَت أو احتالت حتى بَلَغُوا مَبْلَغَ الكسب، وما تَصدَّقَ به من أرض على كبير فلم يقبضه عن المتصدِّقِ حتى مات بَطُلَ، وما تَصَدَّقَ به على صغار بَنِيهِ فهو ماضٍ لَهُمْ إن مات الأب قبل رُشْدِهم لأنه الحائزُ لهم، وإن لم يقبضوه في حياته بعد رُشْدِهم حتى مات الآن بَطُلَت، وكتب لكم بذلك وَلِيُّكُم بالله تعالى راشد بن أبي راشد الوليدي لطف الله به (6) ".
وجه مراعاة المآل في النازلة:
إن فتوى ابن أبي راشد الوليدي قد قامت في بنائها الفقهي على ما يلي:
1ـ الالتفات إلى الباعث على الفعل، وقد مَرَّ الحديث عن أن نظرية الباعث هي إحدى النظريات ذات الصلة بأصل اعتبار المآل، ومن ثم كان للقصد أثره في نظر المفتين وذلك بالنظر إلى كثرة الوقوع والمآلُ الكثير الوقوع مُعْتَبَرٌ عند المالكية، وبما أن الأصل هو أن الأسباب المشروعة يترتب عليها أحكام ضِمْناً، فكذلك غير المشروعة يترتب عليها أيضا أحكام ضمنا (7)،فالفعل سليم في ظاهره، وتَوَسَّلَ به صاحبه إلى أمر غير مشروع، لذا وجبت المعاملة بنقيض القصد إذ وَقَعَتِ التُّهْمَةُ على المُصَيِّرِ، و التهمة هنا يقويها:
ـ أولا: من شروط التصيير أن يُعْلَمَ مِقْدَارُ الدين المُصَيَّرِ فيه، وقد قال ابن عاصم:
والشَّرْطُ في التصْيير أنْ يُقَدَّرَا **** دَيْنٌ والإنْجَازُ لمَّا تَصَيَّرَا (8)
وهذه المعاملة فيها جَهْلٌ بأحد العِوضَيْنِ، والجَهْلُ مُفسِدٌ للعقود، كما هو معلوم من فروع المذهب وقواعده.
ـ ثانيا: قَبْضُ الزوجة الثانية وأولادها للدار المُصيَّرة كان بعد الوفاة، والأصل أن القبض يَجِبُ فَوْراً أو لمدة يسيرة كما قال ناظم العمل الفاسي:
وللحِيازةِ افتقارُ التَّصييرْ **** وحوزُهُ شهْر وذاك تكثير (9)
وذلك الحَوْزُ المُقَدَّرُ بشَهر حَوْزُ تكثير، أي كثيرٌ مُدَّتُهُ عند من حَدَّ فيه حدّاً، ونهاية ما حدُّوا فيه شَهْرٌ، لأنه ليس بمَحْضِ تَبَرُّعٍ، فيحتاج إلى حيازة عامة على ما به العمل في حَوْزِ التبرعات، وإنما هو مُعاوضةٌ، وشرَطوا فيه الحَوْزَ، لأنه لما كثُرت حِيَلُ الناس على التوصل به إلى التوليج شَرَطُوهُ فيه سدا للذريعة إلى تكميل غَرَضِهم الفاسد (10).
ثالثا: ثبوت ميل الزوج إلى المصيَّر لها مما يعني المحاباة وتقوية التهمة.
2ـ الموازنة بين مصلحة ومفسدة، وهذه المصلحة في ذاتها مُتَوَهَّمَةٌ وغير حقيقية وما يترتب عليها مفسدة حقيقية توجب اعتبار التهمة في فعل المصير، فرغم أن فعل التصيير قد يَجْلُبُ مصلحةً لبعض الأطراف ففيه ضرر لطرف آخر، وقد ثَبَتَ أن بعض ما يتجه إليه النظر المآلي هو الضرر المتوقع في الآجل، وقاعدة: " الضرر يزال " في شمولها تقتضي أن تجرى على كل ما يَصْلُحُ عليه معنى الضرر، على اعتبار أن ما يُفضي إلى الضرر في ثاني الحال يجب المنع منه في ابتدائه (11)، وعلى هذا، إذا كان غرض المصير إيقاع الضرر على زوجته المنفية وأولادها بتصييره داره إلى زوجته المنقطع إليها وأولادها، فقد ثبتت نية الإضرار وتفويت حق ورثة شرعيين لسبب غير شرعي، ومقتضى العدل المنع من هذا التصرف حفاظا على المصالح الحقيقية المعتبرة شرعا.
¥