ولقد بعث هذا الاعتماد على عمل أهل المدينة بعض المخالفين لمالك على محاولة توهين هذا الأصل بادعاء كونه قولا بإجماع أهل المدينة دون سواهم مع أن الإجماع لا يتحقق إلا باتفاق جمهور علماء الأمة في فترة من الفترات، وليس علماء أهل المدينة إلا جزءا يسيرا من علماء الأمة فلا يمكن أن ينعقد بهم إجماع وحدهم. لقد قال بكون عمل أهل المدينة دعوى إجماع أصوليون فتحدثوا عن هذا الأصل وهم يدرسون قضايا الإجماع، ومن هؤلاء أبو الحسين البصري الذي يقول: وحكي عن مالك أنه قال: إجماع أهل المدينة وحدهم حجة8.
ومنهم عبد المالك الجو يني الذي قال: نقل أصحاب المقالات عن مالك رضي الله عنه أنه كان يرى اتفاق أهل المدينة يعني علماءها حجة، وهذا مشهور عنه، والظن بمالك رحمه الله لعلو درجته أنه لا يقول بما نقل الناقلون9. وقال الغزالي صار مالك رضي الله عنه إلى أن الإجماع يحصل بقول الفقهاء السبعة، وهم فقهاء المدينة، ولا نبالي بخلاف غيرهم 10. وليس بالوسع تتبع مثل هذه الأقوال، فهي كثيرة في كتب الأصوليين، لكن الملاحظ أن تلك الأقوال تشكك في أن يكون مذهب مالك يرى أن عمل أهل المدينة إجماع خاص.
ومن أجل استبعاد أن يكون مالك قد حصر الإجماع في أهل المدينة فقد تصدى عياض لتصحيح هذا الخطإ فقال: وكثر تحريف المخالف فيما نقل عن مالك من ذلك سوى ما قدمنا فحكى أبو بكر الصيرفي وأبو حامد الغزالي أن مالكا يقول لا يعتبر إجماع أهل المدينة دون غيرهم وهذا ما لا يقوله مالك ولا أحد من أصحابه11.
وقد كان الباجي أكثر تحديدا لما بين أن المالكية لا يقولون بإجماع أهل المدينة إلا إذا ما انصب على نقل تواتر من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى زمن مالك.
يقول الباجي ذلك أن مالكا إنما عول على أقوال أهل المدينة وجعلها حجة في ما طريقه النقل كمسألة الآذان وترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ومسألة الصاع وترك إخراج الزكاة من الخضراوات وغير ذلك من المسائل التي طريقها النقل واتصل العمل بها في المدينة على وجه لا يخفى مثله ونقل نقلا يحج ويقطع العذر12.
إن هذا النوع من الإجماع على نقل خبر أو فعل أو تقرير، هو أمر اختص به أهل المدينة، بسبب معايشتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذهم عنه بلا واسطة، وبقائهم على ذلك العمل بصورة جماعية، وهذا النوع من الإجماع النقلي، ليس مما يصدق عليه اسم الإجماع في بابه من كتب الأصول، لأن الإجماع إنما هو اتفاق المجتهدين على حكم انتهوا إليه بعد أن توفرت لهم شروط الاجتهاد وأدواته.
إن اجتماع أهل المدينة يحتاج إلى توضيح يعرف مستوياته ويبين ما يصلح لأن يكون حجة وأصلا استنباطيا وما لا يصلح.
لقد قسم عياض إجماع أهل المدينة إلى فرعين كبيرين:
1. إجماع على اجتهاد اجتهدوه.
2. إجماع على نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الإجماع الاجتهادي لأهل المدينة.
فأما إجماعهم على اجتهاد فإن عامة المالكية لا يرونه أكثر من اجتهاد يستوي مع اجتهادات عامة علماء المسلمين، فما كان دليله قويا أخذ به وما افتقر إلى دليل ترك ورد.
يقول عياض عن إجماع أهل المدينة على أمر اجتهادي: هذا النوع اختلف فيه أصحابنا، فذهب معظمهم إلى أنه ليس بحجة ولا فيه ترجيح، وهو قول كبراء البغداديين، ومنهم ابن بكير، وأبو يعقوب الرازي، والحسن بن المنتاب وأبو العباس الطيالسي، وأبو الفرج القاضي، وأبو بكر الأبهري، وأبو التمام، وأبو الحسن ابن القصار، قالوا: لأنهم بعض الأمة، والحجة إنما هي بمجموعها، وإلى هذا ذهب أبو بكر ابن الطيب وأنكر هؤلاء أن يكون مالك يقول هذا، وأن يكون هذا مذهبه ولا أئمة أصحابه13.
ويقول الباجي: ما أدركوه بالاستنباط والاجتهاد فهذا لا فرق فيه بين علماء المدينة وعلماء غيرهم في أن المصير منه إلى ما عضده الدليل والترجيح، ولذلك خالف مالك في مسائل عدة أقوال أهل المدينة هذا مذهب مالك في هذه المسألة وبه قال محققو أصحابنا كأبي بكر الأبهري وغيره، وقال به أبو بكر وابن القصار وأبو تمام، وهو الصحيح، وقد ذهب جماعة ممن ينتحل مذهب مالك ممن لم يمعن النظر في هذا الباب إلى أن إجماع أهل المدينة حجة فيما طريقه الاجتهاد14.
ويمكن التوسع في دراسة هذه القضية بالرجوع إلى كتب الأصول المالكية منها كتاب الجواهر الثمينة في بيان أدلة عالم المدينة لحسن المشاط15.
¥