فائدة: في الأثر دلالة على استحباب وسنية اتخاذ موضع لصلاة الجنازة, يُقصد وتُحمل إليه لا إلى المقبرة, كما في حديث المرأة السوداء (حديث الباب) وغيره, وكان هذا المحل مشهورا معروفا على عهده صلى الله عليه وسلم وعهد صحابته بل إلى زمن الإمام مالك, قال ابن بطال نقلا عن ابن حبيب: كان مصلى الجنائز بالمدينة لاصقا بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم من جهة المشرق –أي من جهة حجرته صلى الله عليه وسلم-.
وأخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال أخبرنا عبد الحميد بن أحمد الوراق قال أخبرنا الخضر بن داود قال حدثنا أبو بكر [الأثرم] قال أخبرنا [أبو] الوليد [الطيالسي] قال حدثنا المثنى بن سعيد الضبعي عن أبي حمرة الضبعي قال: انطلقت أنا ومعمر بن سمير اليشكري وكان من أصحاب الدرهمين في خلافة عمر فانطلقنا نطلب جنازة نصلي عليها فاستقبلنا أصحابنا وقد فرغوا ورجعوا قال أبو جمرة فذهبت أرجع فقال امض بنا فمضينا إلى القبر فصلينا عليه.
قلت: هذا الأثر إسناده حسن, وفيه دليل على مشروعية قضاء صلاة الجنازة لمن لم يدركها أولا.
قال وأخبرنا أحمد بن إسحاق [الحضرمي] قال حدثنا وهيب [بن خالد] قال حدثنا أيوب عن محمد [بن سيرين] قال إذا فاتته الصلاة على الجنازة انطلق إلى القبر فصلى عليه. قال وهيب ورأيت أيوبا يفعله ومسلم أيضا.
قلت: الأثر صحيح الإسناد, وقد أخرج نحوه ابن أبي شيبة (رقم12064) قال: حدَّثَنَا هُشَيْمٌ [بن بشير]، أَخْبَرَنَا أَبُو حُرَّةَ [واصل بن عبد الرحمن]، عَنِ ابْنُ سِيرِينَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إذَا سُبِقَ الرّجلِ بِالْجِنَازَةِ فليُصَلّ عَلَى الْقَبْرِ. وإسناده حسن.
وبمثله عن ابن أبي شيبة أيضا (رقم 12065) قال: حدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ سِيرِينَ وَنَحْنُ نُرِيدُ جِنَازَةً فَسُبِقْنَا بِهَا حَتَّى دُفِنَتْ، قَالَ: فَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: تَعَالَ حَتَّى نَصْنَعَ كَمَا صَنَعُوا، قَالَ: فَكَبَّرَ عَلَى الْقَبْرِ أَرْبَعًا. إسناده صحيح.
قال وحدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال أخبرنا أيوب عن نافع قال توفي عاصم بن عمر وابن عمر غائب فقدم بعد ذلك قال أيوب أحسبه قال بثلاث فقال أروني قبر أخي فأروه فصلى عليه هكذا قال عن أحمد عن ابن علية عن أيوب وهو عندي وهم لا شك فيه لأن معمرا ذكر عن أيوب عن نافع أن ابن عمر أتى قبر أخيه ودعا له وهذا هو الصحيح المعروف من مذهب ابن عمر من غير ما وجه عن نافع وقد يحتمل أن تكون رواية ابن علية عن أيوب فصلى عليه بمعنى فدعا له لأن الصلاة دعاء وهو أصلها في اللغة فإذا كان هذا فليس بمخالف لما روى معمر.
وكذلك روى عبيد الله بن عمر عن نافع قال كان ابن عمر إذا انتهى إلى جنازة قد صلى عليها دعا وانصرف ولم يعد الصلاة. وقد يحتمل ما ذكرنا عن عائشة من صلاتها على قبر أخيها عبد الرحمن أنها دعت له فكنى القوم عن الدعاء بالصلاة لأنهم كانوا عربا وهذا سائغ في اللغة والشواهد عليه محفوظة مشهورة فأغنى ذلك عن ذكرها هاهنا.
وإذا احتمل هذا فغير نكير أن يقال فيما ذكرنا من الآثار المرفوعة وغيرها أنه أريد بذكر الصلاة على القبر فيها الدعاء إلا أن يكون حديثا مفسرا يذكر فيه أنه صف بهم وكبر ورفع يديه ونحو هذا من وجه المعارضة ولكن الصحيح في النظر أن ذكر الصلاة على الجنائز إذا أتى مطلقا فالمراد به الصلاة المعهودة على الجنائز ومن ادعى غير ذلك كانت البينة عليه وليس ما ذكرنا من الآثار عن الصحابة والتابعين ما يرد قول مالك أن الصلاة على القبر جاءت وليس عليه العمل لأنها كلها آثار بصرية وكوفية وليس منها شيء مدني أعني عن الصحابة ومن بعدهم رضي الله عنهم.
ومالك رحمه الله إنما حكى أنه ليس عليه العمل عندهم بالمدينة في عصره وعصر شيوخه وهو كما قال ما وجدنا عن مدني ما يرد حكايته هذه والله تعالى قد نزهه عن التهمة والكذب وحباه بالأمانة والصدق.
تتمة الموضوع
قلت: انظر كيف وجه كلام الإمام مالك رحمه الله, وكيف أجاب عن الآثار المروية التي سبق الإشارة إليها, فكان بسط المسألة بهذه الكيفية هي ذروة آداب السلف في معالجة مسائل الخلاف, فهلا أخذنا من هذا الينبوع الصافي والمنهل الكافي.
ثم ختم ابن عبد البر المسألة بترجيح جواز الصلاة على القبر والجنازة لمن فاتته الصلاة أولا, على ألا يكون الميت قد قُبر قديما, مع إقراره –رحمه الله- بوجود المانعين والمخالفين من علماء سلفيين.
كتبها شيخنا الفاضل ابو وائل سمير ميرابيع واذن لي بنشرها ووعدني بالمبحث الثاني في الايام القادمة ان شاء الله
اخوكم ومحبكم في الله ابو عبد الهادي عثمان بن بوعلام الجزائري
قريبا ان شاء الله المبحث الثاني: ملاحظات على كلام صاحب الإتحاف