والثاني: المقاصد التابعة، وهي: (التي روعي فيها حظ المكلف، فمن جهتها يَحْصل له مقتضى ما جُبِل عليه؛ من نيل الشهوات، والاستمتاع بالمباحات، وسَدّ الخَلاّت) (41)، وهذا القسم مُكمِّل لما قبله، يقول الشاطبي: (المقاصد التابعة: خادمة للمقاصد الأصلية ومكملة لها، ولو شاء الله لكلَّف بها مع الإعراض عن الحظوظ، أو لكلف بها مع سلب الدواعي المجبول عليها؛ لكنه امْتَنَّ على عباده بما جعله وسيلة إلى ما أراده من عمارة الدنيا للآخرة، وجعل الاكتساب لهذه الحظوظ مباحاً لا ممنوعاً، لكن على قوانين شرعية هي أبلغ في المصلحة، وأجرى على الدوام مما يَعُدّه العبد مصلحة) والله يعلم وأنتم لا تعلمون (… فبهذا اللَّحْظ قيل: إن هذه المقاصد توابع، وإن تلك هي الأصول، فالقسم الأول: يَقْتضيه محض العبودية، والثاني: يقتضيه لطف المالك بالعبيد) (42).
- ومن حيث كونها اعتبارية أو حقيقية، فقد قَسّمها ابن عاشور إلى نوعين:
أولهما: معان حقيقية، وعرَّفها بقوله: (هي التي لها تَحَقُّقٌ في نفسها بحيث تُدْرِك العقول السَّلِيْمة ملائمتها للمصلحة أو منافرتها لها … كإدراك كَوْن العدل نافعاً، وكون الاعتداء على النفوس ضاراً، وكون الأخذ على يدِ الظالم نافعاً لصلاح المجتمع) (43).
والثاني: معان عرفية عامة، قال ابن عاشور عنها: (هي المُجَرَّبات التي أَلِفَتْها نفوس الجماهير، واستحسنها استحساناً ناشئاً عن تجربة ملائمتها لصلاح الجمهور، كإدراك كَوْن الإحسان معنىً ينبغي تعامل الأمة به، وكإدراك كَوْن عقوبة الجاني رادعة إياه عن العَوْد إلى مثل جنايته، ورداعة غيره عن الإجرام، وكَوْن ضد ذَيْنك يؤَثّر ضد أَثَرَيْهما) (44).
خصائص مقاصد الشريعة
للمقاصد الشرعية خصائص عديدة، تُلْحظ باستقراء الأحكام وعللها؛ لأن الشِّرْعة المحمدية قائمة على حفظ المقاصد ورعايتها.
يقول الشاطبي: (الشريعة المباركة المحمدية منزلة على هذا الوجه، ولذلك كانت محفوظة في أصولها وفروعها كما قال تعالى:) إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (؛ لأنها ترجع إلى حفظ المقاصد، التي بها يكون صلاح الدارين، وهي: الضروريات والحاجيات والتحسينيات وما هو مكمل ومتمم لأطرافها، وهي أصول الشريعة) (45).
ومن ثَمّ فإن خصائص أصول الشريعة تَنْسحب على المقاصد الشرعية، وقد حَصَرَها الشاطبي في خواص ثلاث، وهي:
الأولى: العموم والاطراد، بحيث تَشْمل جميع أنواع التكليف والمكلَّفين والأحوال، وتَطّرد دون تَخَلُّف، يقول الشاطبي: (إذا ثبت أن الشارع قد قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية، وذلك على وجه لا يختل لها به نظام، لا بحسب الكل ولا بحسب الجزء، وسواء في ذلك ما كان من قبيل الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات، فإنها لو كانت موضوعة بحيث يمكن أن يختل نظامها أو تختل أحكامها: لم يكن التشريع موضوعاً لها، إذ ليس كونها مصالح إذ ذاك بأولى من كونها مفاسد، لكن الشارع قاصد بها أن تكون تلك مصالح على الإطلاق، فلا بد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبدياً وكلياً، وعاماً في جميع أنواع التكليف والمكلفين وجميع الأحوال، وكذلك وَجَدْنا الأمر فيها) (46).
الثانية: الثبوت من غير زوال، يقول الشاطبي: (فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخاً ولا تخصيصاً لعمومها، ولا تقييداً لإطلاقها، ولا رفعاً لحكم من أحكامها: لا بحسب عموم المكلفين، ولا بحسب خصوص بعضهم، ولا بحسب زمان دون زمان ولا حال دون حال) (47).
ودليلُ الثبوت: الاستقراءُ التام، يقول الشاطبي: (ويدل على ذلك الاستقراء التام، وأن الشريعة مبنية على حفظ الضروريات والحاجيات والتحسينات.
وجميع ذلك لم ينسخ منه شيء، بل إنما أتى بالمدينة ما يُقوّيها ويُحْكِمها ويُحَصِّنها، وإذا كان كذلك: لم يَثْبت نسخ لكلي البتّة، ومن استقرأ كُتب الناسخ والمنسوخ تحقّق هذا المعنى، فإنما يكون النسخ في الجزئيات منها) (48).
الثالثة: كونها حاكمة غير محكوم عليها؛ لأنها كالروح للأعمال، يقول الشاطبي: (فإن المقاصد أرواح الأعمال؛ فقد صار العمل ذا روح على الجملة) (49).
ولما كانت حاكمة للإنسان جاءت:
- مراعية لفطرته، يقول ابن عاشور: (ونحن إذا أجلنا النظر في المقصد العام من التشريع …نجده لا يعدو أن يساير حفظ الفطرة، والحذر من خرقها واختلالها) (50).
¥