والثاني: تكميل الضروريات وحِمايتها، يقول الشاطبي: (الأمور الحاجيّة: إنما هي حائمة حول هذه الحمى، إذ هي تتردد على الضروريات تُكَمِّلها، بحيث ترتفع في القيام بها واكتسابها: المَشَقّات، وتميل بهم فيها إلى التوسط والاعتدال في الأمور، حتى تكون جارية على وجه لا يميل إلى إفراط وتفريط) (28)، ثم قال: (فإذا فهم هذا لم يَرْتَب – من الرَّيْب والشك– العاقل في أن هذه الأمور الحاجية: فروعٌ دائرةٌ حول الأمور الضرورية) (29)، وقال أيضاً: (الحاجيّ مكمِّل للضروري) (30)، وقال أيضاً: (الحاجيّ يَخْدم الضروري) (31).
وثالثها: مرتبة التَّحْسِيْنِيَّات. والكلام فيها كما يأتي:
تعريف التحسينيات: يقول الشاطبي: (هي: الأخذ بما يليق من مَحَاسن العادات، وتَجَنُّب الأحوال المدنِّسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويَجْمع ذلك: قسم مكارم الأخلاق) (32). وذَكَرَ أمثلة على ذلك، مثل: أخذ الزينة، والتقرب إلى الله بنوافل الخيرات، ومثل آداب الأكل والشرب في (العادات)، ومنع بيع النجاسات في (المعاملات).
ثم قال: (وقليل الأمثلة يَدُلّ على ما سواها مما هو في معناها، فهذه الأمور راجعة إلى محاسن زائدة على أصل المصالح الضرورية والحاجيّة؛ إذ ليس فقدانها بمُخِلّ بأمر ضروري ولا حاجيّ، وإنما جَرَتْ مجرى التَّحسين والتَّزيين) (33).
الحكمة من التحسينيات: وترجع إلى شيئين:
أولهما: تكميل الضروريات والحاجيّات وحمايتها، يقول الشاطبي: (كل واحدة من هذه المراتب: لما كانت مختلفة في تأكُّد الاعتبار – فالضروريات آكدها ثم تَلِيْها الحاجيات والتحسينيات – وكان مرتبطاً بعضها ببعض، كان في إبطال الأخفّ جُرْأة على ما هو آكد منه، ومدخل للإخلال به، فصار الأخف كأنه حِمىً للآكد، والراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه) (34). وقال أيضاً: (إن كل حاجيّ وتَحْسيني إنما هو خادم للأصل الضروري ومُؤْنس به، ومُحَسِّن لصورته الخاصة: إما مُقدِّمةً له، أو مقارناً، أو تابعاً، وعلى كلّ تقدير فهو يدور بالخدمة حَوَالَيْه، فهو أحرى أن يتأدّى به الضروري على أحسن حالاته) (35).
والثاني: (كمال الأمة في نظامها حتى تعيش أمة آمنة مطمئنة، ولها بهجة منظر المجتمع في مرأى بقية الأمم حتى تكون الأمة الإسلامية مرغوباً في الاندماج فيها أو في التقرّب منها) (36).
أقسام مقاصد الشريعة
تَتَوَزَّع المقاصد الشرعية إلى قسمين:
أحدهما: المقاصد العامة، وهي: (المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو مُعظمها؛ بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة) (37).
ومَرَدّ ذلك إلى قاعدة الشرع الكُلّيّة المُعَبَّر عنها بـ (دَرْء المفاسد وجَلْب المصالح)، يقول الشاطبي: (المعلوم من الشريعة أنها شُرِعت لمصالح العباد؛ فالتكليف كله إما لدَرْء مفسدة، وإما لجلب مصلحة، أو لهما معاً) (38).
والثاني: المقاصد الخاصة، واختلف أهل العلم في قِسْمتها؛ لاختلاف الجهات والحيثيات.
- فمن حيث مرتبتها في القصد، قَسَّمها الشاطبي إلى قسمين:
أولهما: المقاصد الأصليّة، وهي: (التي لا حَظّ فيها للمُكَلَّف، وهي الضروريات المُعْتبرة في كل مِلّة) (39).
وقد تكون: (ضرورية عينية، وإلى ضرورية كفائية، فأما كونها: عينيّة فعلى كل مكلَّف في نفسه، فهو مأمور بحفظ دينه اعتقاداً وعملاً، وبحفظ نفسه قياماً بضرورية حياته، وبحفظ عقله حفظاً لمورد الخطاب من ربه إليه، وبحفظ نسله التفاتاً إلى بقاء عوضه في عمارة هذه الدار … وبحفظ ماله استعانة على إقامة تلك الأوجه الأربعة …وأما كونها: كفائية فمن حيث كانت منوطة بالغير أن يقوم بها على العموم في جميع المكلفين؛ لتستقيم الأحوال العامة التي لا تقوم الخاصة إلا بها. إلا أن هذا القسم مكمل للأول، فهو لاحق به في كونه ضرورياً؛ إذ لا يقوم العيني إلا بالكفائي) (40).
¥