ويذكر ياقوت الحموي في كتابه (معجم البلدان) من أخبار مدينة الري بعد خرابها عند مروره بها سنة 617 هـ، فيقول: “وكان أهل المدينة ثلاث طوائف: شافعية وهم الأقل، وحنفية وهم الأكثر، وشيعة وهم السواد الأعظم، فوقعت العصبية بين السنة والشيعة، فتظافر عليهم الحنفية والشافعين، وتطاولت بينهم الحروب حتى لم يتركوا من الشيعة من يُعرَف، فلما أفنوهم وقعت العصبية بين الحنفية والشافعية، ووقعت بينهم حروب، كان الظفر في جميعها للشافعية، هذا مع قلة عدد الشافعين. وكان أهل الرسْتاق -وهم حنفية- يجيئون إلى البلد بالسلاح الشاك، ويساعدون أهل نحلتهم، فلم يغنهم ذلك شيئاً حتى أفنوهم، ولم يبق من الشيعة والحنفية إلا من يخفي مذهبه، ووجدتُ دورهم كلها مبنية تحت الأرض، ودروبهم التي يسلك بها إلى دورهم في غاية الظلمة وصعوبة المسلك، ولولا ذلك لما بقي بها أحد" اهـ.
وقد وصل الخلاف الفقهي بين الفقهاء المذاهب في مسائل الصلاة والطلاق وغيرها إلى أن منع بعض الأحناف تزوّج الحنفي بشافعية، ثم صدرت فتوى من فقيه آخر ملقَّب بـ (مفتي الثقلين) فأجاز تزوج الحنفي بشافعية، وعلل ذلك بقوله: "تنزيلاً لها منزلة أهل الكتاب". ومفهوم ذلك أنه لا يجوز تزوج الشافعي بالحنفية كما لا يجوز تزوج الكتابي بمسلمة. وقد شنّ الأحناف على الشافعية حملات عنيفة خلال التاريخ. جاء في (مراقي الفلاح) عن ماء البئر النجس الذي وقع فيه حيوان ميت وانتفخ، قال: فإن عجِن بمائها يلقى للكلاب، أو يعلف به المواشي، وقال بعضهم: يباع لشافعي. يل وأكثر من ذلك، فقد جاء في ترجمة قاضي دمشق الحنفي محمد بن بدر البلاساغوني الذي توفي سنة 506 هـ وكان غالياً في مذهبه -كما يقول ابن كثير- قال البلاساغوني: لو كانت لي الولاية لأخذت من أصحاب الشافعي الجزية! ويخبرنا ابن كثير أن البلاساغوني كان مبغِضاً لأصحاب مالك أيضاً. وبالمقابل، لم يقصر الشافعية في الرد والحمل على الأحناف. وأشهر ما كتب عندهم في الحطّ على أبي حنيفة ومذهبه وآرائه، كتاب (مغيث الخلق في ترجيح المذهب الحق) لإمام الحرمين أبي المعالي الجويني، وقد أتى في (مغيثه) هذا بطامات يطول ذكرها.
الخلاصة
سأذكر في هذه الخلاصة نتائج استعمال علم الكلام في مسائل الفقه وأصوله وما تبع ذلك من إغلاق باب الاجتهاد وإلزام الناس بالتقليد.
1) تحميل العقل البشري ما لا يطيق في استنباط القواعد الأصولية اعتماداً على المناهج الكلامية دون اعتبار للنصوص الشرعية والتي هي أصل الفقه وقواعده. "فما أيده العقل وقام عليه البرهان فهو الأصل الشرعي سواء أوافق الفروع المذهبية أن خالفها".
2) انتشار الجدل والكلام والفلسفة بين الفقهاء والأصوليين كسلاح يستعمل للهجوم أو الرد أو لتقعيد قواعد شرعية اعتمدوها هم.
3) مع كثرة الجدل قلّ العمل، ونتيجة لذلك توقفت -تقريباً- حركة الجهاد ونشر دين الله تعالى في الأرض، وغزا الأمةَ الإسلامية أعداؤها من أهل الكتاب والوثنيين.
4) نتيجة لإغلاق باب الاجتهاد وفرض التقليد حُجِبَت شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم كقدوة أمرنا الله بالاقتداء بها واتباع هديه صلى الله عليه وسلم. ومن ثَمَّ أصبحت شخصيته صلى الله عليه وسلم في تكايا الصوفية وزواياهم صنماً يعبد مع الله تعالى، حيث أضحت شخصية مقدسة تعشَق وتحب دون اقتداء أو اتباع.
5) مخالفة أمر الله تعالى في طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فكانت الفتن تعصف بالأمة من كل جهة.
6) تكاسل الناس عن طلب العلم وانحسار طلب علم الحديث الشريف وتفضيله على آراء الرجال، بعد أن كان هذا العلم سمة أهل الحق وصفة الطائفة المنصورة أصحاب القرون الثلاثة الأولى ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
7) انكباب أصحاب المذاهب على دراسة كتب وآراء الرجال، وبداية عصر الشرح والحواشي والاختصارات.
8) تراجع مستوى اللغة العربية عند العرب عامة، وعند العجم خاصة. فقد كفاهم المذهب عنت التعلم والتعليم، فانتشرت اللغات المحلية، وتعقدت طرق تعليم العربية.
9) انتشار البدع بين العامة والخاصة وذلك لجهلهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهج السلف الصالح في فهم الاتباع، حتى غدت السنن بدعاً والبدعُ سنناً!
10) ومن جراء تلقي الأمة في العصور المتأخرة لذلك التراث المتخم بالغث والسمين وبفقدان المنهجبة السليمة والموازين الصحيحة في التلقي والاتباع والفهم، فقد تشكلت في الأمة أجيال اختلطت عليها الأمور وانحطت شخصيتها وضاعت ثقتها بدينها وبنفسها، وكانت النتيجة هي هذه الفرقة التي نراها بين المسلمين اليوم.
إذن، لا بد من العودة إلى المنابع الصافية لهذا الدين، وأن يكون تلقي شباب هذه الأمة من تلك المنابع الصافية التي لا كدر فيها ولا عكر ليبنى لدينا جيل صحابي يثبت فعّأليته في الأرض ويجاهد في سبيل الله تعالى وينشر كلمته كما فعل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا وإخواننا المسلمين إلى كل خير وأن يهدينا إلى صراطه المستقيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
عبد الرحمن كيلاني
1991م
الحواشي
[1] من مقدمة المحقق د. مفيد أبو عمشة لكتاب الكلوذاني (التمهيد في أصول الفقه).
[2] يبين الدكتور مفيد أبو عمشة في تقديمه لكتاب الكلوذاني أن القرن الخامس بلغ أوج نضوجه بالنسبة للفقه وأصوله، كما يذكر أسماء الأعلام الذين كتبوا في هذا المضمار، ويضيف قائلاً: “أن الكتابة في علم الأصول في القرن الخامس اتسمت بتحرير المسائل وبيان محل النزاع وتفريع الأقوال وبسط الخلاف بين المذاهب المختلفة وحشد الأدلة وشدة الجدل". اهـ هذا في وقت كانت الأمة ترزخ نحت حكم الباطنيين من بويهيين وحمدانيين وقرامطة وعبيديين، ومن ثم جاءتنا جحافل الصليبيين!!
مصادر البحث
-إحكام الأحكام للآمدي، تحقيق عبد الرزاق عفيفي.
-البداية والنهاية، ابن كثير الدمشقي، طبعة الريان.
-بدعة التعصب المذهبي، محمد عيد عباسي
-التمهيد في أصول الفقه، الكلوذاني، تحقيق الدكتور مفيد أبو عمشة.
-سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، الألباني، المجلد الثاني.
-علم أصول الفقه، عبد الوهاب خلاف.
-المحصول في أصول الفقه للرازي، تحقيق د. طه جابر العلواني