تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

إن أول ما يجب توافره في الفتوى لتكون محلاً للاعتبار اعتمادها على الأدلة الشرعية المعتبرة لدى أهل العلم وهي: كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله ?. فلا يجوز للمفتي أن يتعداهما إلى غيرهما قبل النظر فيهما، ثم الاعتماد عليهما، كما لا يجوز مخالفتهما اعتماداً على غيرهما، والأدلة على ذلك من كتاب الله تعالى كثيرة، منها: قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] (الحجرات: 1). أي لا تقولوا حتى يقول، ولا تأمروا حتى يأمر، ولا تفتوا حتى يفتي، ولا تقطعوا أمراً حتى يكون هو الذي يحكم فيه ويمضيه. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: «لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة». وروى العوفي عنه قال: «نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه». والقول الجامع في معنى الآية: «لا تعجلوا بقول ولا فعل قبل أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يفعل» (15). وأما الأدلة من السنة فكثيرة، نكتفي منها بالحديث الآتي: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء عند النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر حديث اللعان وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أبصروها؛ فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الأليتين، خَدَلَّجَ الساقين [أي: ممتلئ الساقين] فهو لشريك بن سحماء، وإن جاءت به كذا وكذا فهو لهلال بن أمية. فجاءت به على النعت المكروه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن" [رواه البخاري (4470)] يريد - والله ورسوله أعلم - أنه كان يحدها لمشابهة ولدها للرجل الذي رميت به. ولكن كتاب الله فصل الحكومة، وأسقط كل قول وراءه، ولم يبق للاجتهاد بعده موقع» (16)

فالفتوى الشرعية إذن يجب أن تعتمد على كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا يحسن بالمفتي أن يبين الدليل؛ لأن جمال الفتوى وروحها هو الدليل «وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن المسألة فيضرب لها الأمثال، ويشبهها بنظائرها، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سئل أحدهم عن مسألة أفتى بالحجة نفسها، فيقول: قال الله تعالى كذا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو فعل كذا، فيشفي السائل، ويبلغ القائل، وهذا كثير جداً في فتاويهم لمن تأملها. ثم جاء التابعون، والأئمة من بعدهم، فكان أحدهم يذكر الحكم ثم يستدل عليه، وعلمه يأبى أن يتكلم بلا حجة، والسائل يأبى قبول قوله بلا دليل، ثم طال الأمد وبَعُدَ العهد بالعلم، وتقاصرت الهمم إلى أن صار بعضهم يجيب بنعم أو لا فقط، ولا يذكر للجواب دليلاً ولا مأخذاً، ويعترف بقصوره وفضل من يفتي بالدليل، ثم نزلنا درجة أخرى إلى أن وصلت الفتوى إلى عيب من يفتي بالدليل وذمه، ولعله يحدث للناس طبقة أخرى لا يُدرى ما حالهم في الفتاوى، والله المستعان» (17)

هكذا قال ابن القيم - رحمه الله - تعالى منذ قرون، وقد حدثت في الناس تلك الطبقة التي تخوف منها، فراحت تتحيل على النصوص الشرعية بتعليلات وهمية، وتسوق ما يروق لها من تسويغات جدلية، استسلاماً لضغوط الواقع، واستعظاماً لبعض الأحكام الشرعية، وتحاول في بعض الأحيان تأييد أقوالها بحجج واهية، ونصوص باطلة، لا تقوم بها حجة، ولا يفرح بها فقيه النفس، ولا يطمئن إليها تقي القلب، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

- وثالث هذه الأدلة: الإجماع، وهو اتفاق جميع المجتهدين من المسلمين في عصر من العصور بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم على حكم شرعي في واقعة.

والإجماع حجة شرعية يجب اتباعها، ولا تجوز مخالفتها، والحكم الثابت بالإجماع حكم شرعي قطعي لا مجال لمخالفته ولا إلى نسخه، وليس للمجتهدين في عصر تالٍ أن يجعلوا هذه القضية موضع اجتهاد؛ فما بالك بمخالفته ببعض الأقوال، وآراء الرجال!!

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير