وللفصاحة والبيان أثر كبير في تجلية الحقائق ووصف الوقائع، ولكن أثرهما يبدو أكبر عندما تبرز قدرتهما على قلب الأمور رأساً على عقب، وطمس الحقائق، وتزوير الوقائع، وذم ما حقه المدح، ومدح ما حقه الذم، وهو خلق ذميم نهى عنه الإسلام وتوعد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صاحبَه بالنار، وذلك في قوله:
"ولعل بعضكم أن يكون ألحنَ بحجته من بعض فأقضي له، فمن قضيت له بشيء من ذلك فإنما أقطع له قطعة من النار".
ولكننا ذكرناه هنا لنقف على مقدار أثر الفصاحة والبيان في النفوس، حتى إنها لتمكن صاحبها من مدح الشيء وذمه بآن واحد، وقد ألف أمير البيان الجاحظ في ذلك كتاباً سماه: (مدح الشيء وذمّه)، تناول فيه أشياء بالمدح تارةً وبالذم تارةً أخرى.
ولعل في خبر عمرو بن الأهتم والزبرقان بن بدر خيرَ دليل على هذا، فقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن الأهتم عن الزبرقان بن بدر، فقال:
"إنه لمانعٌ لحوزته، مُطاع في أدْنَيْه". قال الزبرقان: إنه يا رسول الله ليعلم مني أكثر مما قال، ولكنه حسدني شرفي، فقصر بي، قال عمرو: "هو والله زَمِرُ المُروءة، ضيق العَطَن، لئيم الخال". فنظر النبي صلى الله عليه وسلم في عينيه فقال:
"يارسول الله، رضيتُ فقلتُ أحسنَ ما علمت، وغضبتُ فقلتُ أقبحَ ما علمت، وما كذبتُ في الأولى، ولقد صدقتُ في الآخرة" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحراً" [2] ( http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?ArticleID=2719#_ftn2).
ومما يدخل في هذه البابة ما أُلِّف من مقامات في المفاخرات والمناظرات، حيث يحشد الأديب كل ما أوتي من بلاغة وفصاحة، وبيان وطلاقة، في الاستدلال على مدح الشيء ورفعَتِه، وعلو قدره ومنزلته، ثم يحشد مثل ذلك للاستدلال على مدح نقيضه فيحار القارئ إلى أيهما ينحاز، وقد عنيت بأَخَرة بإخراج كتاب في هذه المقامات لثلّة من الأدباء بعنوان: (المفاخرات والمناظرات) صدر عن دار البشائر الإسلامية ببيروت، ضم مفاخرة بين الليل والنهار، وأخرى بين الشمس والقمر، وثالثة بين الغربة والإقامة، ورابعة بين العلم والجهل، وخامسة بين الماء والهواء، وسادسة بين الأرض والسماء.
ولا أجد في ختام هذا المقام وبيان هذا المعنى أحسن من قول ابن الرومي:
في زُخرف القول تزيينٌ لباطلِهِ والحقُّ قد يعتريهِ سوءُ تعبيرِ
تقولُ هذا مُجاج النحلِ تمدحُهُ وإن تَعِبْ قلتَ ذا قيءُ الزنانيرِ
مدحاً وذماً، وما جاوزتَ وصفَهما سحرُ البيانِ يُري الظلماءَ كالنورِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ( http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?ArticleID=2719#_ftnref1) دغفل بن حنظلة: نسابة العرب (65هـ)، قال الجاحظ: لم يدرك الناس مثله لساناً وعلماً وحفظاً. الأعلام 2/ 340.
[2] ( http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?ArticleID=2719#_ftnref2) ورد بهذا النص في البيان والتبيين، وفصل المقال في شرح كتاب الأمثال. (إضافة من المحرر).
للدكتور محمد حسان الطيان
http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?ArticleID=2719