تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

والبديع في هذه المقالة هو تفريق الطّناحيّ بين نحو الصّنعة ونحو التّراكيب وبناء الجملة العربيّة، والأخير في نظره، ونظرنا معه، هو النّحو الشّامخ القائم على رعاية المعاني والدّلالات، الّتي خرجت بالنّحو من دائرة القوالب والنّظام والاطّراد، إلى العلاقات بين أجزاء الكلام، وتلك المنادح الواسعة من التّقديم والتّأخير، والحذف والتّقدير، والإضمار والفصل، والاتّساع والحمل، والتّضمين والجوار، والاستغناء ورعاية الظّاهر واعتبار المحل، ومعاني الحروف والأدوات ووقوع بعضها موقع بعض، وتبادل وظائف الأبنية، ثم لغة الشّعر الّتي يسمّونَها الضّرائر. قال: "وهذا تستطيع أن تدركه من أوّل كتاب سيبويه إلى النّحو الوافي لعبّاس حسن، على تفاوت بين النّحاة في ذلك، وتستطيع أن تدركه أيضًا في كتب أعاريب القرآن وتوجيه القراءات السّبع والعشر والشّواذّ، وشروح الحديث النّبويّ، وفي شروح الشّعر وكتب الأمثال وعلوم البلاغة"، ومن ثمّ فهو يرى أنّ "النّحو بِهذا الوصف لا يصحّ أن يُطعنَ فيه أو يُنتقصَ منه، لأنّ الطّاعنَ فيه منتقصٌ للعربيّة كلِّها، ذاهبٌ عنها جميعِها".

ويمضي الطّناحيّ مبرزًا ما مر به النّحو العربيّ على أيدي نحاته الأكابر من قفزات سمت به، فيتناول قضيّة تجاذب المعانى والإعراب، وما كان لابن جني فيها من قول، ثم ما وُفِّق إليه الشّيخ عبد القاهر الجرجانيّ، الّذي كان يعرف عند الأقدمين بعبد القاهر النّحويّ، من نظريّة النّظم.

ثم تراه يشنّ على حجازي هجومًا كاسحًا في الجزء الثاني من مقالته هذه، لانتقاصه من قدر ابن منظور وابن هشام، اللّذين يرى الطّناحيّ أنّه لولا ما صنعاه هما وغيرهما من لغويّي ونحاة وعلماء القرن الثامن، وهو العصر المملوكي الّذي دأب بعض الكتاب على وسمه بعصر الانحطاط، لضاع علم كثير، ولضعُفت ذاكرة الأمّة العربيّة ثم تلاشت.

ولم يترك الطّناحيّ الأستاذ حجازي قبل أن يناقشه الحساب في قوله: "إنّ الدّكتور طه حسين قد أخرج بمنهجه الشّعر الجاهليّ من سلطان النّحاة"، فينشئ لذلك مقالة عنوانُها "النّحو والشّعراء"، ينقض فيها عرى هذا الكلام عروة عروة، ويبيّن أنّه من الكلام الّذي يرسل إرسالًا، وكأنه من الحقائق المؤكدة الّتي استقرّت عند النّاس، ولم يبقَ لأحدٍ فيها مقال. ويطالب الطّناحيّ الأستاذ حجازي بتحديد هؤلاء النّحاة وبيان مدى سلطانِهم المزعوم، إذ من النّحاة من كان مع الإبداع الشّعريّ، كأبي عليّ الفارسيّ، وابن جني، بل إنّ كثيرًا من نحاة الصّدر الأوّل كانوا في قلب الحركة الشّعريّة وفي الصّميم منها، كأبي عمرو بن العلاء الّذي كان راويةً لذي الرُّمة، الّذي يقال إنّ شعرَه يُمثّل ثلثَ لغة العرب. وكذلك كان يونُسُ بْنُ حبيب، شيخُ سيبويه، شديدَ الاختصاص برؤبةَ بنِ العجّاج. كما كان نفطويه يحفظ نقائضَ جرير والفرزدق وشِعرَ ذي الرُّمة. وينتصر الطّناحيُّ من بعدُ لمنهج النّحاة في تقعيد القواعد واستبعادهم ما شذَّ عن النّظام اللّغوي الّذي قعّد النّحاة قواعده عليه. وفي هذه المقالة يرى أيضًا أنّ الضّرورة الشّعريّة لا تسوِّغ الخروج عن السّنن العربيّة، وأنّ العميد طه حسين نفسَه يعيبُ على بعض الشّعراء المحدَثين خروجَهم على قواعد النّحو، ويوافقه في ذلك صلاح لبكي.

وإنّني أهيب بأساتذة النّحو العربيّ ودارسيه على السّواء أن يتأملوا آراء هذا العالم في النّحو، والّتي خلاصتها أنّ "النّحو القائم على رعاية التّراكيب والدّلالات في الكلام العربيّ الملفوظ والمكتوب، هو النّحو الّذي ينبغي معرفته وتأمله والاستكثار منه، لأنه بِهذا المفهوم مِلاك العربيّة وقوامها، بل إنّه كان يُعبَّر عنه أحيانًا في القديم بالعربيّة"، وأن يجتهدوا في الخروج بالنّحو من جفاف النّظريّة إلى خصب التّطبيق، ومن مسارب كتب الصّناعة إلى رحابة ما نطقت به العرب العرباء، وأن يجمعوا إلى نحوهم شيئًا من الأدب الحيّ، واللّغة العذبة، حتّى يجدوا لكلامهم سبيلًا ومذهبًا، ولتوجيههم مقنعًا وبلاغًا، فيجعلوا النّحو بذلك حيًّا في كلّ ما يكتبون ويقولون، علَّ جيلًا ينشأ على حبِّ النّحو وعشق العربيّة. وليحذروا مع ذلك من دعاوى تيسير النّحو، الّتي لا تقود إلا إلى تشويهه وبتر أعضائه، فإنّ كلّ عبارة خُطّت في هذا السّفر النّحوي العظيم، إنّما هي خيطُ لحمة أو سدى في ديباج

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير