نسيجه، كما يقول الأستاذ يوسف الصّيداوي، فلينظر المرء ماذا ينسل وماذا يبتر! وليعلم في كلّ حال أنّه بما يفعل، إنّما يُقَطِّع أوصال كائن حضاريّ، لو مَلكتْ مثلَه أمّة من الأمم الرّاقية لحَرَصَتْ عليه حِرصَها على إنسانِ عينها، ولعاقبت مرتكبَ تيسيره عقابَ من يُسيء إلى أمّة. (انظر: الكفاف، يوسف الصّيداوي، دار الفكر، دمشق، الطّبعة الأولى، 1999م. 1/ 18 - 19. وإنما نعني هنا دعاوى نبذ بعض المباحث النّحوية وهدم بعض).
* * * * * الشّعر والأمثال العربيّة
وممّا يكثر دورانه في مقالات الطّناحيّ الشّعرُ والأمثالُ العربيّة، فهو يقتنصها اقتناصًا، ويسوقها في حاقِّ مواضعها، من غير تكلّف ولا تمحّل، وربما يشير إلى قائليها ومن تنسب إليهم إذا وسِعَه المقام، ومن ذلك ما ساقه من قول العرب: "شِنْشِنة أعرفها من أخزم"، وقولهم: "ثبِّت نسبًا واطلب ميراثًا"، و"من يَعِش يرَ عجبًا". بل إنّ مجرّد وضع الطّناحيّ هذه الأمثال في مواضعها المناسبة من الكلام، يكاد يكون شرحًا لغامضها، وتوضيحًا لمبهمها، وتبيينًا لمواطن استعمالها.
وشواهد الطّناحيّ من الشّعر تقوم دليلًا آخر على تمكّنه وسعة اطلاعه، وهو يُكثر من ذلك، ويأتي فيه بالبديع المعجب من الشّواهد الّتي لا يكثر دورانُها على ألسنة النّاس ولا في كتاباتِهم، ولكنّك لا ترى إلا شواهد قد جاءت في محالّها، غير مستثقلة ولا مستكرهة، تنبئ عن علم غزير وذوق. ودونك استشهادَه بقول الشّاعر:
فإلّا يكونوا قاتليه فإنّه * سواء علينا ممسكاه وضاربه وقوله الآخر:
يديرونني عن سالم وأديرهم * وجلدة بين العين والأنف سالم وربما أمسك عن ذكر شاهد يحضره في مسألة بعينها، خشية الإساءة، واستبراءً لدينه وعِرضه؛ يقول في معرض ردّه على الأستاذ حسين أحمد أمين، وسيأتي حديثه: "ويحضرني الآن شاهد من الشّعر وصورة من التّشبيه، ولكنّي أمسك عنهما، صونًا لنفسي من الزّلل، واستمساكًا بأصول أخلاقيّة ألزمت بِها نفسي منذ أن عرفتُ طريقي للكتابة والمذاكرة والمحاضرة. وأنا أنشد لنفسي دائمًا قول ابن فرج الجيّانيّ الأندلسيّ:
فملّكت النّهى جمحات أمري * لأجري في العفاف على طباعي وبالجملة، فأنت لا ينقضي عجبك ممّا بُثَّ في مقالات هذا العالم من فوائد لغويّة وطرائف أدبيّة ونكات نحويّة ونوادر عجيبة، إن في التّفسير أو في الحديث أو التّاريخ، أوغير ذلك من العلوم، لا تكاد تخلو منها صفحة من صفحات الكتاب، ناهيك بأقواله في التّراث وتحقيقه، ورجاله ونسائه من العرب والمسلمين والمستشرقين ممّا سنُلمّ بطرف منه عمّا قليل.
تَهاويل فارغة
ولا يكاد الطّناحيّ يَمُرّ بشيء من المصطلحات الحديثة الّتي باتت تدور في فلكها كتابات كثير من الكُتّاب، إلّا ويجرّد له سيفه، ويشنّ عليه حملته، فبينه وبينها عداء متمكّن، فهو دائمًا يصفها بالتّهاويل الفارغة الّتي لا طائل تحتها، ودونك حديثه عن تعلّمه العربيّة، إذ يقول: " ... فعرفنا العربيّة صافية قبل أنّ تكدّرها الدّلاء، فلم يكنِ الدّرسُ الأدبيّ واللّغويّ في أيامنا غارقًا في ضباب المصطلح والنّظريّة، وتقويم الفكر العربيّ، وسائر تلك التّهاويل الفارغة والدّعاوى العريضة الّتي فتحت الباب للصّغار يعبثون بتاريخهم وعلومهم! "
ويظهر ذلك في تعليقه على كلام للدّكتور أحمد درويش عن النّحو العربيّ بقوله: "وأخطر ما في كلام الزّميل العزيز أنّه استطال فيه بذكائه، واحتشد له بتلك المصطلحات والتّراكيب الّتي تخطف بصر القارئ وتَهزّه هزًّا، وتخيفه (تخضّه) ... وهو نمط من الكلام إن أعجب بعضَ النّاس فإنّه عند كثير منهم خفيفٌ هيّن، كما قال الشّاعر: "وخمر أبي الرّوقاء ليست تسكر".
ونحوًا من هذا ذكر في معرض ردّه على كلام الأستاذ حجازي إذ قال: "على أنّ الزّجَّ بِهذه الكلمات: الآداب اليونانيّة، والمرحلة الهللينيّة والسّكندريّة، وروما في القرن الرّابع ... كلّ ذلك وأشباهه ممّا يلقيه الكاتب إلى القارئ أو السّامع - وبخاصّة المبتدئ - فيهزُّه هزًّا، ثم يدهشه ويرعش عقله ويخيفه (يخضّه) فتضعف حجّته في الرّدّ عليه أو دفعه لو وجد إليهما سبيلًا، على ما جاء في الحديث الّذي أخرجه البخاريّ ومسلم وغيرهما: "ونصرت بالرّعب مسيرة شهر".
¥