تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وإليك هذا الوصف البليغ الّذي يصف به الطّناحيّ ما بات يدور في كتابات أهل النّقد من مصطلحات نقديّة، وما ينساق إليه كثير من الكتاب والشّعراء من الغموض الّذي يدع الحليم حيران، فتلك المصطلحات في نظره إن هي إلا "ألفاظ مستهلكة تشبه العملة المعدِنيّة الممسوحة، أو العملة الورقيّة الّتي تَهرّأت أطرافها من كثرة ما تداولتها الأيدي، أو كالعملة الزّائفة الّتي ليس لها رصيد في مصرف النّفس، وإنما هي ألفاظ وتراكيب تُسَوّد بها الصّحف، تروح وتجيء، تتجاوزها عينك على عجل، لا تقف عندها، لأنك لا تجد فيها إمتاعًا، ولا تُحِسُّ معها أُنسًا، فضلًا عمّا تجده في بعضها من ثقل وغثاثة، تكاد تطبق على القلب وتسدّ مجرى النّفس – وما أمر "الزّخم" منك ببعيد، إلى هذه البليّة المستحدثة، وهي بليّة الغموض الّذي يندفع فيه كثير من الأدباء الآن، وليس هو الغموض الّذي يحرّك النّفس لتستخرج بحسن التّأمّل خبيء الكلام ومطويّ المشاعر، ولكنّه الغموض المظلم الّذي يكدّ العقل، ويكون مجلبة للغمّ والكآبة، غموض العجز والحيرة". ثم يمضي ليقول: "وهذه الألفاظ والتّراكيب الّتي يستعملها بعض أدباء هذا الزّمان، أشبه بتقاليع (الموضة)، تظهر ثم تختفي، لا تعرف ثباتًا ولا استقرارًا، فقد كنّا نسمع في السّتينات ... الوحدة الموضوعيّة، والمعاناة، وعمق التّجربة، والخلق وتراسل الحواسّ، والمونولوج الدّاخلي، والدّفقة الشّعوريّة، والتّعبير بالصّورة، والألفاظ الموحية، والشّعر المهموس. والآن نسمع: الإبداع وتكثيف التّجربة، والزّخم (والعياذ بالله) والطّرح، والمنظومة والإشكاليّة والتّناصّ والتّماهي والتّفجير والتّفكيك ... وهذا وأشباهه إنّما هو كما قال ابن قتيبة منذ (1240) سنة في مقدّمة أدب الكاتب: "ترجمة تروق بلا معنى، واسم يهول بلا جسم، فإذا سمع الغُمر-أي الجاهل- والحدث الغرُّ قولَه: الكون والفساد، وسمع الكيان ... راعه ما سمع، فظنّ أنّ تحت هذه الألقاب كلّ فائدة ولطيفة، فإذا طالعها لم يحل منها بطائل أو كما قال أبو السّعادات بن الشّجريّ: "تَهاويل فارغة من حقيقة". ثم عقّب الطّناحيّ بقوله: "ولا يغرنّك أيُّها القارئ اجتماع الكُتّاب على هذه الألفاظ، وكثرة استعمالهم لها، فإنّ الاستعمال ليس بدليل على الحسن، كما يقول ضياء الدّين بن الأثير في المثل السّائر".

وقد أكّد الطّناحيّ نظرته هذه في مقالة طريفة من مقالاته القصيرة، الّتي جُمعت أيضًا تحت عنوان: "الكلمة الأخيرة" وذُيّل بها مجموع مقالاته. وخبر تلك المقالة أنّ ابنته طالبةٌ في إحدى كلّيّات الآداب، وأنّه هو يعلم العربيّة في كلّيّة مناظِرة، فكان حقًّا عليه، كما يقول، أن يكون في عون ابنته فيما يشكل عليها ممّا تدرس من علوم العربيّة. يقول: "لكنّي أقف عاجزًا أمام كثير ممّا تدرسه ابنتي، وبخاصّة ما يتعلق بعلوم النّقد الأدبيّ والبلاغة والأدب المقارن وتحليل النّصوص، فكثير ممّا يقدم من هذه العلوم للطّلبة الآن كلام عجيب حقًّا، وليس له من العربيّة إلا الحروف والأفعال والأسماء، مصبوبًا ذلك كلّه في نظام نحويّ صحيح في جملته، لكنّك إذا أردت أن تخرج منه بمعان أو دلالات ذاتِ معنى أعجزك ذلك، فهو كلامٌ "تعقل معنى مفرداته، ولا تفهم مركّباته" كما وصف ابنُ دقيق العيد كلامَ ابن سبعين الصّوفيّ، وأحيانًا لا تعقل مفرداته، ولذلك يعجزني -على كثرة ما قرأت وحفظت- أن أجيب ابنتي على ما تسأل، وكثيرًا ما أجيبها: "ما المسؤول عنها بأعلم من السّائل"، ثمّ أصلّي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم". قلت: وتحضرني في هذا المقام كلمة للفارابيّ في المنجّمين تكاد تنطبق على كثير ممّا يأتي في كلام هؤلاء، قال فيها: "اعلم أنّك لو قلبت أوضاع المنجمين فجعلت الحارَّ باردًا، والبارد حارًّا، والسّعد نحسًا، والنّحس سعدًا، والذّكر أنثى، والأنثى ذكرًا، ثم حكمت، لكانت أحكامك من جنس أحكامهم، تصيب تارة، وتخطئ تارات". (روح المعاني في تفسير القرآن والسّبع المثاني، الآلوسي، دار الكتب العلمية، بيروت. الطبعة الأولى، 1994. 12/ 110).

* * * * *

ـ[أبومالك المصرى]ــــــــ[18 - 05 - 10, 02:07 ص]ـ

الطّناحيّ والقراءات

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير