تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وكنت قد ذكرت في مقالة لي عن معلم اللّغة العربيّة أنّ اللّغة العربيّة كلّ متكامل لا غنى لموضوع فيها عن الآخر، وهذا ما يجده قارئ مقالات الطّناحيّ، رحمه الله وبَرَّد مضجعه، فأنت تجده قد ضرب في كلّ علم من علوم العربيّة بسهم، ثم لم يترك كتابًا من كتب القراءات والتّفسير والحديث، ولا من كتب السّير والتّراجم والرّجال، ولا من كتب الفقه والمنطق والأصول، وقعت عليه يده، إلّا ونظر فيه نظر الخبير الواعي، وذلك من آثار تلمذته على الشّيخ شاكر الّذي كان من وصاته لتلامذته أن يقرؤوا الكتب قراءة كاملة، من أوّلها إلى آخرها، وألّا يكتفوا بالرّجوع إليها بين الفينة والأخرى، ويتعاملوا معها تعامل المصادر والمراجع، يأخذون منها حاجتهم ويمضون، كالطّائر العجل يحسو من الماء حُسوة ثم ينطلق في فضاء الله. وقد كان ذلك دأبَ الشّيخ شاكر وهجّيراه، فقد كان، كما يقول عنه الطّناحيّ، "ينعم بما أفاء الله عليه من مكتبة ضخمة عامرة، لم تتيسّر لأحد من علماء عصرنا، قرأها كلّها قراءة كتاب واحد، بذلك العقل الذّكيّ الّذي يجمع كلّ شاذّة وفاذّة".

وقد كتب الطّناحيّ مقالة عنوانُها: "الشّيخ الشّعراويّ والفتنة بما يقوله الكبار"، أبرزت تمكّنه من القراءات، ودفاعه عنها. وبيان ذلك أنّ الشّيخ الشّعراوي، رحمه الله وأجزل مثوبته، عرض في بعض الحلقات قبل وفاته لقضيّة القراءات القرآنيّة، وانتهى إلى أنّ سبب الاختلاف فيها هو أنّ "المصحف الشّريف" في أوّل كتابته لم يكن منقوطًا، فكان العربيّ المسلم يقرأ وينطق بملكة اللّغة المتوارثة، ودلّل على ذلك ببعض الأمثلة، منها قوله تعالى: (صبغة الله)] البقرة:138 [، وقوله تعالى: (وسخّر لكم ما في السّموات وما في الأرض جميعًا منه)] الجاثية:13 [وقال عن الآية الأولى إنّها قرئت قراءتين: (صبغة) بالصّاد المهملة بعدها باء موحَّدة ثمّ غين معجمة، و"صنعة" بالصّاد أيضًا بعدها نون ثمّ عين مهملة. ثمّ أخذ الطّناحيّ في مناقشة هذه القراءة، فبيّن أنّها ليست من المتواتر، ولا حتّى من الشّاذّ، قال: "ولست أدري من أين جاء بها الشّيخ؟ " ثم عرض توجيه أهل التّفسير للآية على معنى "صبغة".

والّذي يهمّنا في هذه المقالة هو ما عرض له الطّناحيّ من مناقشة قضيّة خُلُوّ المصحف الشّريف من النّقط والإعجام، وهي قضيّة جدّ خطيرة، قد خاض فيها كثيرون، فنجا منهم مَن نجا وهلك من هلك، ولعلّ أوّل من نقب هذا النّقب هو المستشرق المجريّ جولدزيهر، وقد تبعه خلق من المستشرقين، وعدد من العلماء المسلمين. وقد ناقش الطّناحيّ هذه القضيّة مناقشة تشهد له، على اقتضابِها، بطول الباع، والتّمكّن من هذا الفنّ، مع صلاح النّيّة وسلامة الاعتقاد. فقد نفى نفيًا قاطعًا أن يكون خلوُّ المصاحف من النّقط هو السّبب في اختلاف القراءات، إذ هي توقيفيّة ليس فيها مكان لاجتهاد المجتهدين، ولا لتأوّل المتأوّلين. وقد صدر في ذلك كلّه عن إيمان وعقيدة، يقول: "والمأمول منك أيها القارئ الكريم أن تجعل هذه القضيّة على بالك، وأن تشغل بِها بالك ووقتك، فإنّها دين وعقيدة".

على أنّ الطّناحيّ قد عرض لهذه القضيّة من قبل في مقالة نشرتْها مجلّة الهلال عام 1997، وهي ثانية مقالتين قدم في الأولى منهما عرضًا لكتاب الدّكتور الطّاهر أحمد مكّيّ الموسوم بـ "دراسة في مصادر الأدب"، أمّا الثّانية فأدارها على مناقشة ما جاء في الكتاب من تاريخ النّقط في الحروف العربيّة، وقد دلف منها إلى مسألة تجرّد المصاحف من نقط الحروف الّتي رأى الدّكتور مكّيّ أنّ الاختلاف في القراءات القرآنيّة راجع إليها، وقد وصف الطّناحيّ، على جمّ أدبه، هذا الرّأي بأنه "خطأ محض ووهم غليظ"، ثم قال: "وليغفر لنا الأستاذ الكبير هذه الأوصاف؛ لأن الأمر يتعلّق بكتاب ربنا عز وجل". وكذلك عرض للقضيّة نفسها في مقالة له عنوانُها: هذه النّقطة .. وقضيّة التّصحيف والتّحريف، مؤكّدًا الموقف نفسه ببراعة فائقة، وإحاطة تامّة، وعلم غزير.

فنّ التّلاوة

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير