تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولم يقتصر علم الطّناحيّ بالقراءات على الجانب النّظري منها، بل تعدّاه إلى فنّ الأداء، وما ينطوي عليه من بعد موسيقي عميق، ليدبّج فيه مقالات ترجم فيها لبعض حُذّاق القرّاء ومهرتهم، كمقالته: الشّيخ مصطفى إسماعيل وقرّاء مصر، الّتي تشي بحسن ذوقه واهتمامه بدقائق الأداء، وتنبهه لخفايا هذا الفن، وإلمامه بالمقامات والغناء والأصوات، ممّا لا يكاد يقع لكثيرين، وهو في نظري من تمام العلم بالعربيّة الّتي هي لغة فنّ وموسيقى وإيقاع.

وآية ذلك أنّ الطّناحيّ ينتقل من الحديث عن القراءات تاريخًا وعلمًا، إلى الحديث عنها فنًّا وأداء، بأصوات القرّاء المشهورين، ممن أنعم الله عليهم بحسن الصّوت وجمال الأداء. يقول: ويبدو أنّ لمصر في ذلك تاريخًا قديمًا، تأخّرنا كثيرًا في كتابة تاريخ قرّاء مصر، ومكتبتنا العربيّة خالية من هذا اللّون من الكتابة إلا شيئًا يسيرًا كتبه الأستاذ محمود السّعدنيّ (وهو سمّيع كبير) في أواخر الخمسينيّات، سمّاه: "ألحان من السّماء"، ثمّ ما يكتب أشتاتًا متفرّقات في بعض المجلات. ثم يذكر ما جاء من كتاب الأستاذ كمال النّجميّ عن الشّيخ محمد رفعت والشّيخ مصطفى إسماعيل، وهو الكتاب الّذي يرى أنّه جاء مجلى لحياة الشّيخ مصطفى وتقلّبه في العالمين.

والحقّ أنّ ما أشار إليه الدّكتور الطّناحيّ أمر غاية في الأهميّة، فالقرّاء في مصر ظاهرة قويّة، لو وجدت في بلاد الغرب لقامت لها الدّنيا وما قعدت، ولأجريت حولها دراسات وأبحاث، وقدّمت فيها رسائل جامعيّة، وأنشئت من أجلها المراكز والمعاهد. وقد وقفت على حجم هذه الظاهرة عندما أسند إليَّ مركزُ أكسفورد للدّراسات الإسلاميّة عرض كتاب للدّكتورة كريستينا نلسون عنوانه: "فنّ تلاوة القرآن"، وهو رسالة دكتوراة كتبت في صلب هذا الموضوع، ومن حسن الموافقات أن ظهرت على غلاف كتابِها صورة للشّيخ مصطفى إسماعيل وهو مستغرق في التّلاوة وقد وضع كفّه على صفحة وجهه، مستغرقًا في الأداء كلّ الاستغراق!

وتلي هذه المقالةَ مقالةٌ أخرى نشرتْها مجلّة الهلال سنة 1993، يفرّق فيها الطّناحيّ بين القارئ والمقرئ، ويذكر بعض المقرئين الّذين نبغوا في مصر في زمانه، كالشّيخ عبد الفتّاح القاضي، والشّيخ إبراهيم علي شحاته، والشّيخ أحمد عبد العزيز الزّيّات. ولكنّه يدير مقالته كلّها على القرّاء جمع قارئ، ولا سيّما الشّيخ عامر عثمان، إذ عرّف به، ثمّ انتقل إلى الكلام عن تفنّنه في مجال الأداء الصّوتيّ، وجاء من ذلك بأمثلة تدلّ على حسِّه المرهف وذوقه الرّفيع.

تحقيق التّراث

وكما ذكرنا في بداية كلامنا، فتحقيق التّراث هو أبرز جانب في شخصيّة الدّكتور الطّناحيّ، وعليه تدور معظم مقالاته، ولا غرو، فإنّ له مع التّراث رحلة ممتعة وتاريخًا حافلًا، تظهر فصوله من خلال المقالات الكثيرة الّتي كتبها في حياته رحمه الله، حتّى إنّك لا تكاد تجد له مقاله إلا وينبعث من بين سطورها عبق التّاريخ، وتفوح منها رائحة التّراث. ناهيك بما أودع في مقدّمات ما حقّق من كتب من دروس في المنهج "الّذي ينبغي أن يلتزم به من يقوم بالتّحقيق"، (مقالة أحمد تمّام، إسلام أون لاين) وإشارات ولطائف لا غنى للمحقّق الجادّ عنها.

وهو، إلى هذا، يهتمّ كثيرًا بالتّرجمة لأعلام تحقيق التّراث الّذين عاصرهم وأخذ عنهم، كترجمته للأستاذ فؤاد سيّد، الّذي بدأ الطّناحيّ مقالته عنه بقوله: "في صباح يوم الأحد الثّاني من رمضان، سنة 1387هـ- الثّالث من ديسمبر سنة 1967م دُعي الأستاذ فؤاد سيّد فأجاب، وخسرت مصرُ والعالم العربيّ بوفاته عالمًا فردًا، ظلّ يعمل في دنيا المخطوطات قرابة الأربعين عامًا، درسًا وتمثلًا وتصنيفًا". ثم ترجمته للأستاذ رشاد عبد المطّلب الّذي قال فيه: "كان ملء السّمع والبصر، وكانت حياته بَهجة للقلب والعقل جميعًا، وحين نعاه النّاعي كادت النّفس أن تفيض عليه، وغشي القلب حزن أسود كئيب من هول الرّزء وفداحة المصاب، ولم يجد محبوه وعارفو فضله إلا قول أبي الطّيب المتنبّي:

طوى الجزيرة حتّى جاءني خبر * فزعتُ فيه بآمالي إلى الكذبِ

حتّى إذا لم يَدَعْ لي صدقُه أملًا * شرقتُ بالدّمع حتّى كاد يشرق بي

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير