تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

إن هو إلا سيف وجمل .. يمشون في الليل، ويكمنون في النهار، وآثار خيل الصليبيين الذين يطاردونهم تبدو لهم عند منعطف كل طريق، ولعل الأطفال هم وحدهم الذين لم يبالوا بما يصيبهم إن أمسكوا، فقد كانوا يمشون كما يمشون إلى بيوتهم، بعبث الأطفال ولهوهم واطمئنانهم، فاقترح أحد الكبار أن يكون للقافلة قائد، فاختاروا أبا عمر، هذا الشاب الذي كان يخطو وقتئذ إلى الثالثة والعشرين من عمره، فأركبوا بعض الصبيان على الجمل، وحملوا البنات على أكتافهم، وظلوا يسيرون ضائعين متخبطين ثمانية أيام، وبكل ما تعنيه السلامة من حظ طيب استطاعت هذه القافلة أن تتخطى حواجز الصليبيين، وأن تنجو من مكائد قطاع الطرق، حتى وصلت سالمة إلى دمشق، فخرج الشيخ أحمد وتلقاهم ‘ ودخلوا دمشق قبل إغلاق أبوابها، وفي مسجد عند بابها الشرقي، مسجد أبي صالح (6)، حطت القافلة رحالها أخيراً، وكان عددها خمساً وثلاثين نفساً .. وتتابعت الهجرة بعدها إلى هذا المسجد أرسالاً ..

والذي جعل الشيخ أحمد يختار مسجد أبي صالح للإقامة فيه هو اتفاقه في المذهب مع القائمين عليه، وهم بنو الحنبلي، وقد أحسنوا استقباله في بداية الأمر، حتى إنه صار إماماً فيه، بل بدأت شهرته تنتشر في تلك المنطقة كما انتشرت من قبل في جماعيل، فغدا الناس يأتون إليه ويزورونه، ويستمعون إلى دروسه، وكان ممن يختلف إليه رجل من مدينة صور ربما كان هارباً هو الآخر من ظلم الصليبيين، فجمعت بين الرجلين محنة واحدة،

هو أبو القاسم الصوري، اطلع على أحوال هؤلاء المهاجرين وما يعانونه من شظف وفقر، فراح يدور في سكك دمشق وأزقتها يصف للناس حالهم، ويجمع لهم الطعام والثياب، ويبدو أن بيئة دمشق لم تواتهم، فراح المرض يغزو أطفالهم، والموت يحصدهم، حتى إن أحدهم بلغ به الحزن حداً جعله يرفض دفن ابنه.

وبدأ القلق يدب في قلوب بني الحنبلي وهم يشاهدون زوار الشيخ يكثرون، وشهرته تتسع، فخافوا على مسجدهم وما يدرّه وقفه عليه من مال أن يأخذه المهاجرون.

فجاؤوا إلى الشيخ أحمد، وطلبوا منه أن يكتب وثيقة بخطه تبين أنه نزل على المسجد طارئاً، وأنه فيه بإذن منهم. فكتب لهم الشيخ ما أرادوا، وحينئذ أفصحوا عن مرادهم، عمدوا إلى صديق الشيخ أبي القاسم الصوري.

فضربوه في المسجد، وحين دافع عنه الشيخ أحمد شتموه، ولم يكتفوا بذلك، بل ذهبوا إلى السلطان نور الدين يستعدونه عليهم، وكان مع السلطان في الميدان الأخضر قرب القلعة قاضية الشافعي شرف الدين ابن أبي عصرون، وهو على خلاف مع بني الحنبلي، فاهتبلها فرصة، وراح يثني على هؤلاء المهاجرين الذين يحفظون القرآن الكريم، وكان لهذه الكلمة أثرها الطيب عند سلطان متدين، فرقّ لهم، وأمر أن يكتب لهم كتاب يسلّم إليهم بموجبه المسجد ووقفه،

وهكذا انقلب الموقف إلى صالح الشيخ أحمد، وأصبح وهو المهاجر سيد هذا المكان، ولكن الشيخ أحمد رأى في ذلك انحرافا عما قصد له من الهجرة، ولم يرضَ أن يظلم وهو الهارب من الظلم،

فقال: ((أنا ما هاجرت حتى أنافس الناس على دنياهم، ما بقيت أريد أسكن ها هنا)) ..

عزم على الرحيل من المسجد ولما يمض على نزوله سنة واحدة، ومما زاد في عزمه ما كان يراه – وهو الحنبلي- من مجون وخلاعة في أهل باب شرقي، وهم يخرجون كل يوم خارج دمشق يشربون الخمر، فينكر عليهم وهو الذي ما اعتاد السكوت، فنشبت بينه وبينهم عداوات، وزاد في ضيقه ما كان يراه من موت الأطفال كل يوم ..

ولكن أين يهاجر؟. أرسل ابنه أبا عمر إلى حوران علّه يجد فيه مكاناً له ولأسرته، فلم يجد، وفي طريق عودته كان جيش الصليبيين يغير على حوران، فاختبأ أبو عمر باللجاة خوفاً منهم (7).

وكان من عادة الشيخ أحمد أن يدفن موتاه في جبل قاسيون، هذا الجبل كان يقسمه نهر يزيد (8) المتفرع عن بردى إلى قسمين، ما تحت النهر كانت القرى والبساتين المروية منه، وما فوقه كان جبلاً أجرد يقوم فيه ديران ومقابر متناثرة، دير غربي يسكنه أبو العباس الكهفي والشيخ عمارة، ويعرف بدير الحوراني، ودير في الناحية الشرقية فيه جماعة من الحنابلة منهم أولاد معبد بن المستفاد وإخوته وأقاربهم؛

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير