هذا الدير كان لجماعة من الرهبان يعتزلون فيه ثم رحلوا عنه، فسكنه هؤلاء، وقد نشأت بين عبد الواحد بن معبد بن مستفاد وبين الشيخ أحمد صداقة، أفضت إلى أن بثه الشيخ أحمد ضيقه بالإقامة في مسجد أبي صالح، فعرض عليه ابن المستفاد أن يختار أي مكان يريده في الجبل يبني فيه، فاختار الشيخ أحمد مكاناً قرب نهر يزيد يبني فيه .. توضأ، وجعل حجراً مكان القبلة وصلى فيه، وقال: ما هذا إلا موضع مبارك.
ولم يكن الانتقال من دمشق إلى جبل قاسيون مجرد انتقال من مكان إلى آخر .. إنه انتقال من حياة الأمان إلى حياة الترقب والخوف، ففي عصر لا يعيش الإنسان فيه آمناً إلا خلف سور مدينة أو حصن، كان السكن في جبل أجرد يعني أن تبقى بلا حماية أمام كل جيش غازٍ (9)
،إضافة إلى أن الجبل كان مأوى للسباع والذئاب .. ومن ثم ندرك حجم الضيق الذي كان يعاني منه الشيخ أحمد، والذي دفعه إلى أن يترك الحياة داخل سور مدينة دمشق إلى العيش فوق جبل أجرد ناءٍ ..
وعلى الفور اكترى الشيخ أحمد عمالاً وباشروا في بناء دير لهم (10)، وكان يساعدهم في البناء بعض الحنابلة، بإسكان الدير الشرقي، وكان لأبي العباس الكهفي أرض يزرعها في الجبل، تحت الكهف، فخاف من هؤلاء القادمين الجدد، كما خاف منهم من قبل بنو الحنبلي فراح يؤلب عليهم سكان الجبل، قائلاً: غداً يكثر هؤلاء، ويتملكون هذه المواضع!! ولكن أحداً لم يصغ له.
كانت الأسرة كلها تعمل، الكبار يبنون، والنساء يطبخن، والصغار ينقلون الخبز للعمال، ولنا أن نتخيل صبياًً في العاشرة بعمامة صغيرة وجبة واسعة ‘ يحمل الخبز على رأسه ..
هذا الصبي يخترق كل يوم البساتين المحيطة بدمشق من شرقيها إلى غربيها مصعداً إلى جبل قاسيون – وهي مسافة طويلة – لا يخيفه طوال الطريق إلا صبيان دمشق في أزقتها يترقبونه ليضربوه،
إنه بالنسبة إليهم صبي غريب عن حيهم، ولا تعنيهم بعد هذا الحقيقة غاية هذا الصبي في مسيره اليومي، يكبر هذا الصبي، ويغدو واحداً من أكبر علماء عصره فيذكر لجلسائه يوماً هذه القصة، وكأنه في خياله يقارن بين صبي خائف وعالم جليل (11).
ويستمر العمل في بناء الدير سنتين، وينتقلون إليه، ولم يكن للدير باب، فكانوا يحرسون ديرهم ليلاً مما يحوم في الجبل من الذئاب والسباع.
وفي انتقالهم إلى الجبل يبتدئ عهد جديد في حياة هذه الأسرة المهاجرة، وتنتشر شهرة الشيخ أحمد، ويكثر زواره يلتمسون دعاءه، ويعجب به السلطان نور الدين، فيكثر من زيارته في مدرسته الصغيرة المجاورة للدير على نهر يزيد.
وبعد سبع سنوات من هجرته يموت الشيخ أحمد، وله سبع وستون سنة (12)، ويخلفه ابنه أبو عمر، فيقوم بأول أعماله الكبيرة، وهو بناء المدرسة العمرية (13)، التي كانت تعد من أكبر مدارس ذلك العصر، ويرسل أبناء المهاجرين إلى بغداد حاضرة العالم الإسلامي وقتئذ ‘ ويبني الدور للقادمين.
ويصور لنا أبا عمر من عاصره من المؤرخين شخصاً مهيباً على رقة فيه، لا يسكت عن الحق ولا يهاب أحداً، حياته لهذه الجماعة المهاجرة يتفقد أهل من سافر منهم، ويصلح بينهم في القضايا، في نهاره يجمع الشيح من الجبل ويربطه بحبل، ويحمله إلى بيوت الأرامل واليتامى، وفي الليل يحمل إليهم الدراهم والدقيق ولا يعرفونه، يتصدق حتى بثيابه، وكثيراً ما يأتي الشتاء وعلى جسده جبة بغير ثوب، عمامته قطعة من بطانة، فإن احتاج أحد إلى خرقة أو مات صغير يحتاج إلى كفن قطع له منها قطعة .. ينام على الحصير، ويأكل خبز الشعير، وثوبه خام إلى أنصاف ساقيه، ما نهر أحداً ولا أوجع قلب أحد (14).
ولم تكن ثمة غَزاة ضد الصليبيين: إلا حضرها، ولا استمع بمنكر إلا اجتهد في إزالته، لا يتزلف لسلطان ولا لصاحب جاه، يكتب في رقاعه إلى ملوك عصره: ((إلى الولد .. )) طالباً كشف مظلمة لأحد الرعية، أو إعادة حق اغتصب، حتى قال فيه أحدهم: هذا الشيخ شريكي في ملكي (15).
وبعد غياب ثلاثين عاماً، يعود أبو عمر إلى القدس في عداد جيش صلاح الدين فاتحاً لها ويدخل خيمته –أثناء الحصار –الملك العادل أخو صلاح الدين، فإذا بأبي عمر قائم يصلي ‘ فما يقطع صلاته، ولا يلتفت ولا يترك ورده، فيجلس العادل ساعة، ثم يخرج ..
¥