تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

واعلموا أني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه، وإني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية القوم (لذريق) فقاتِلُه -إن شاء الله تعالى- فاحملوا معي، فإن هلكت بعده فقد كُفيتُم أمره، ولم يعوزكم بطل عاقل تسندون أموركم إليه، و إن هلكت قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا الهمّ من فتح هذه الجزيرة بقتله).

قالوا إن طارقاً بربري حديث الاستعراب لا يمكنه أن يقول مثل هذه الخطبة ارتجالاً، تذكروا هذا ونسوا أن أباه هو الذي استعرب، وهو مسلم أصلاً، ونشأ طارق في وسط عربي عند موسى بن نصير. قالوا هذا، ونسوا أهم نقطة، وهي كلمة الفصل، وهي أن طارقاً قائد الجيش، وإمامهم في الصلاة، وخطيبهم في الجمعة والأعياد، وفي كل ميدانٍ يقتضي فيه الحديث والكلام، وهذا واجب على قائد الجيش، ولا تصح إمرة مَن لا تتوفر فيه هذه الصفات إذ فيها مخالفة للمنطلقات الإسلامية. ولا يمكن لموسى بن نصير أن يختاره للقيادة إذا كانت لا تتوفر فيه هذه المؤهلات، وهو أدرى الناس به.

وأغرب من هذا أن يقول أحدهم: كيف تكون هذه خطبة لقائد أكثر جيشه من البربر، وأن يرتجلها ارتجالاً. وهل خطيب الجمعة يتكلم بالعامية إن كان أكثر الحضور من العامة؟ وهل يصعب عليه أن يرتجل خطبة كهذه وهو خطيب الجمعة والأعياد وقد تمرّس على الكلام والارتجال؟

تكلم الأدباء عن بيان الخطبة وأسلوبها، والعصر الذي وُضِعت فيه، وعدم إمكانية طارق بن زياد البربري الحديث بالعربية أن يقول مثلها، وكتب المؤرخون عن شبهها بأساطير كثيرة عندما يكون النصر كبيراً، إذ لم يكن جيش المسلمين ليزيد على اثنتي عشر ألفاً، على حين كان جيش (القوط) يزيد على المائة ألف، وقالوا: إن الفرس عندما دخلوا اليمن بقيادة (وهرز) مع سيف بن ذي يزن قد نسبوا لقائدهم مثل هذه الخطبة، كما نسبوا له إحراق السفن، وأن الإسبان عندما دخلوا المكسيك مستعمرين نسبوا لقائدهم قولاً مثل كلام طارق، كما قالوا: إنه أحرق السفن. كما تكلموا عن تأخّر المؤرخين الذين نقلوها، وعدم ذكرها عند المؤرخين الأقدم زمناً، قالوا كل هذا، وناقشوا كل ذلك ولكن لم يتحدَّثوا عن أهم نقطة وهي أن طارقاً كان إمام الجند وخطيبهم، فليس غريباً أن تكون هذه الخطبة من كلام طارق بن زياد الذي مارس الإمامة والخطابة.

إحراق السفن

انطلق المسلمون إلى البلدان فاتحين. انطلقوا بروح إسلامية مجاهدين، وعلى هذا فإن ما يُنسب إلى قادتهم إنما يُنظَر إليه ويُحلل من وجهة نظر إسلامية، فإن انسجمت تصرفاتهم مع منطلقاتهم فهذا الأمر السليم، وإن اختلفت دُرِسَت حسب المنطلقات لتعرف أكان صحيحاً ما نُسب إليهم أم كذباً وافتراءً. لا شكّ قد تقع أخطاء فما من إنسان بعد الرسل بمعصوم، ولكن تُعرف مثل هذه الأخطاء وتشتهر لأن القادة يسألونهم عنها، والخلفاء يحاسبونهم عليها حتى ولو كانت تهمة أو شائعة فيبرّرون هم بأنفسهم تصرفاتهم، أو يلقون العقاب. فقد سئل خالد بن الوليد رضي الله عنه، وكان تصرّفه في كلا الحالتين اجتهاداً، وهو اجتهاد في محله، وكان تصرُّف من تكلم عنه اجتهاداً، وهو في محله أيضاً، وقد سُكت عنه كذلك، وهذا شأن المسلمين.

ولنرجع إلى قضية سفن طارق، فإنه لم يقم بإحراقها أبداً، لا يمكن ذلك، ولو فعل لسُئل وحوسب وعوقب، فإن عملها يكلف الكثير من المال، ويستغرق الكثير من الوقت، ولم يُعرف عن المسلمين الأوائل إهدار المال وإضاعة ما قد أنشؤوه. وهذا الأساس بالموضوع والعلمية، ومع ذلك فلنناقش الموضوعَ منطقياً.

أ) لم يقل طارق أني أحرقت السفن أو أمرت بذلك، وإنما فهم بعض المتأخرين ذلك من خطبته (أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو من أمامكم ... ) فهموا من هذا الكلام أن البحر وراءهم وليس فيه وسيلة نقل تنقلهم إلى العدوة المغربية، وهو فهم فيه شيء من السقم.

ب) لم يقل أحد من جنده أو معاصريه عن هذا شيئاً، وإنما قيلت بعده بعدة قرون.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير